ومن ذلك أن الشمس قريب نفعها، بعيد ضرها، فإنها لما قدرت وجعلت سراجا -لمن في السماوات ومن في الأرض وما بينهما- وهاجا جعلت بعيدة المكان، لسلامة الأجساد منها والأعيان، ولدفع ضررها عن الأشجار والمياه والحيوان، ولو كانت قريبة منها لأتلف شعاعها الأبصار، ولأحرق لهيبها الأجساد والأشجار، ولأزال برد الماء وأيبس الأنهار. وقدرت تطلع حينا وتغرب حينا لدفع هذه المضار، وإصلاح الحيوان والأشجار، وليستريح ويسكن بعد مغيبها أهل الحرص في العمل والإكثار، وجعل القمر، وفيه بعض الضياء لمن أراد السرى بالليل لبعض الأسباب، وليهتدى به عدد السنين والحساب. وجعلت النجوم إذا غابت الشمس والقمر تسد مسدا لمن احتاج إلى الذهاب، وليهتدي بها في البر والبحر أهل الاغتراب، وجعلت البروج الإثنا عشر مقدرة، لا يختلف سيرها، ولا يجتمع مفترقها، ولا يفترق مجتمعها، وجعلت الشمس تقطع البروج في سنة من الحمل إلى الحمل؛ تقطع في كل يوم درجة، والبرج ثلاثون درجة، فالبروج كلها ثلاثمائة وخمس وستون درجة كعدد أيام السنة. والقمر يقطع البروج كلها في شهر، يقطع (في) كل يوم منزلة، والبرج منزلتان وثلث. والزهرة تقيم في البرج خمسة وعشرين نهارا، وعطارد كذلك، وزحل يقيم في البرج ثلاثين شهرا، والمشتري يقطع البرج في سنة وشهر، والمريخ يقطع البرج في سنة ونصف. ومسير هذه النيرات السبع التي هي: الشمس، والقمر، والزهرة، والمشتري، وزحل، والمريخ، وعطارد، إلى جهة المشرق، والفلك يدور بها إلى المغرب، وذلك يتبين لك في أسرعها سيرا وهو القمر فكذلك سائرها، وقد مثل العلماء سيرها مثل دبيب النملة في الرحا، فهي تسير ذات اليمين والرحا تدور بها ذات الشمال.
فلما رأينا هذه النيرات قد وضعت مواضعها، وأعدت لصلاح الحيوان، ورأينا فيها أثر الصنعة والتدبير، ودلائل الإنشاء والتقدير، علمنا أنها محدثة.
وقد قال قوم: شيئان خالقان قديمان: نور وظلمة، فخالق خير وهو النور، وخالق شر وهو الظلمة، وقالوا: هما ممتزجان وغلبوا الظلمة على النور. قالوا: والدليل على ذلك أن الخير لما وجد ثبت أن له فاعلا من جنسه، أو أرفع منه منزلة، وأن الشر لما وجد ثبت أن له فاعلا من جنسه، أو أبلغ منه منزلة.
والحجة عليهم أنا وجدنا النور والظلمة متضادين، ووجدنا النور يزيل الظلمة إذا حضر، وتغشى الظلمة إذا غاب، ورأينا أحدهما يزول بحضور الآخر، ويحضر بزوال ضده، فثبت أنهما محدثان ضعيفان عاجزان؛ لأن أحدهما يزول بحضور الآخر؛ ولأن أحدهما مغير للثاني، وإذا عجز عن نفسه وكان الآخر مغيرا له فهو عن خلق غيره أعجز.
وتبين فساد قولهم أنهم قالوا: النور والظلمة ممتزجان، ومنهم من قال: هما منفصلان ومعهما ثالث معدل؛ والانفصال والامتزاج يدلان على الحدث؛ لأن الانفصال هو الانتقال؛ وهو حركة، والامتزاج أيضا المجاورة، وكل منتقل أو مجاور محدث؛ لأنهما لا يتعريان من الحوادث.
مخ ۷۹