فانتبه خافق القلب وقد تولاه ما يشبه الرعب، وقال: كلا. - معذرة .. رأيتك مغمض العينين. - كنت أفكر. - وفيم تفكر؟
حدق في وجهها بعينين حائرتين وتساءل بماذا يجيب .. أيقول لها فيك أنت .. ولكنها مجازفة سابقة لأوانها، فلازم الصمت، وأحس رغم ارتباكه بلذعة سخرية لاضطرابه أمام هذه الطفلة. وكان ينعم النظر في عينيها السوداوين، ومرت دقيقة على جموده، فشعر بسريان تخدير لذيذ، ولم يعد يرى إلا سوادا جميلا، ثم لاحظ تغيرا فجائيا يطرأ عليها، فرأى وجنتيها تتوردان وشفتيها تقلقان، وعينيها تتحولان إلى هدف وراءه .. وشاهدها تفر نافرة إلى داخل البيت، ونظر خلفه دهشا فرأى أخاه نور يقف مبتسما ويمد له يده للسلام، وأحس بكآبة لم يدر ما سببها، وخفق قلبه خفقان الخوف والخيبة، ولكنه سلم عليه مبتسما وقال له: أهلا، كيف حالك يا دكتور؟
فضحك الشاب وقال بصراحة: كم أنت سعيد يا أخي!
وأدرك ما يعني من اتجاه بصره ولهجته، وآلمه ذلك غاية الألم، ولكنه تجاهل الأمر وقال بإنكار: سعيد؟! - طبعا، من يحدث سمارا ينبغي أن يكون سعيدا.
فابتسم ابتسامة صفراء وقال لنفسه: إما أن هذا الشاب خبيث ماكر وإما أنه غبي لا يفقه لما يقول معني. ليس السعيد حقا من تحدثه سمارا، ولكنه من تخجل من محادثته ومن يتورد وجهها حين رؤيته فلا تملك إلا أن تفر هاربة .. هذا هو السعيد حقا .. أفلا يفهم ذلك هذا الشاب أم إنه يتغابى ويمكر؟!
على أنه كان يحرص على ألا يبدو عليه شيء مما في نفسه، فقال يغير مجري الحديث: كيف كانت ليلتك بالأمس؟
فجلس الشاب إلى جانبه وقال: كان قصر العيني أمس حافلا بالحوادث المزعجة، ومضيت أغلب الليل أستقبل صرعى القضاء والقدر.
وكان عبد الرحمن يرمق شقيقه وهو يتكلم بعينين ساهمتين وعقله دائب على التفكير .. كان ذا قلب كبير يفيض حنانه؛ فهو يحب شقيقه، وقد أمده هذا الحب الأخوي بالعون والصبر، فرباه ورعاه كما ربى أخوين له من قبل، ولكن يداخله أحيانا من ناحيته خوف وجفول وربما أكثر من ذلك. نعم هي الحقيقة؛ فهو يكرهه أحيانا، وهو أشد ما يكون كراهية له إذا جرى ذكر سمارا على لسانه؛ فبمجرد نطقه لذاك الاسم الحبيب يؤذيه ويعذبه؛ وتستحيل هذه الكراهية المؤقتة مقتا إذا وقعت عينا الفتى عليها أو عيناها عليه كما حدث منذ حين قليل .. على أن هذا لا يعني أن هذه الكراهية عاطفة ثابتة؛ فهي مجرد انفعال عنيف، وغير ذلك فهو يحبه وينظر إلى مستقبله كشيء جميل من صنع قلبه وكده، فأي حيرة وأي عذاب .. ترى هل يفطن الشاب إلى ما يحدثه في نفس شقيقه الأكبر من الشقاء؟ .. كلا .. هو بلا شك لا يتصور أن مثله يمكن أن يحب هذه الصبية الجميلة.
وكان الدكتور الشاب يفكر في تلك اللحظة من حياته السعيدة في أمور هامة، فقال لأخيه: لدي أمور هامة أريد أن أفضي إليك بها.
ولم يدعه قلبه القلق يرتاح إلى هذه الرغبة، فقال: اخلع ملابسك أولا وارتح قليلا.
ناپیژندل شوی مخ