ولفت شخصه الغريب أنظار الجالسين، ولكنه لم يجد حرجا ولم يستشعر خجلا؛ إذ أخفت الخمر عن عينيه نظرات الآخرين، وقصد إلى ركن خال واطمأن إلى كرسي وطلب جوزة .. وكان القمر بدرا، والسماء صافية كأنها تعرت تستحم في نوره البهي، فبهره سحر النور وجمال الليل وفتنة الصحراء القائمة وكأنه يرى القمر لأول مرة، بل لعله كان يراه لأول مرة حقا؛ لأنه كان في العادة يمر على محاسن الكون ومفاتنه بعيني أعمى وأذني أصم، أما تلك الليلة - والخمر في رأسه، و«الجوزة» في فمه - فقد نظر وقلب وجهه الذاهل في أقطار السماء والفضاء، وخال الأنوار الهادئة ترقص طربا والقمر الساطع ينشد نشيدا ترتله السموات والأرض، وأحس كأنه متعلق بأطراف النور الفضي كمن يتقلب على بركة من الزئبق. أي حسن .. وأي شعور .. في تلك الساعة السعيدة نسي مرضه العضال وحزنه الثقيل والملل الجاثم على صدره، وذهب عنه شبعه المزمن، وأحس بجدة وبعث ومتعة وحب؛ فأنشد الصامت في أذنيه، وابتسم العابس لعينيه، ولولا الحياء لاندفع يرقص ويغني وينشد طربا وفرحا. وبالغ صاحب القهوة في إكرامه والترحيب به، وأحضر له «الجوزة» بنفسه وهو يقول بتودد: آنست وشرفت.
وكان شيخا في الستين، قصير القامة، بطينا، ضخم الوجه والرقبة، فلم يسع دانش - اسم الشاب - إلا أن يشكره.
وأراد الرجل أن يبالغ في إكرامه فقال: أتحب يا بك أن تسمع غناء بلديا؟
فسر دانش وقال لنفسه: ليلة قمراء وخمر وجوزة وغناء بلدي، يا لها من ليلة سعيدة حقا .. وقال بحماس للرجل: نعم .. نعم .. أين المغني؟
فنادى الرجل: أبا سنة .. تعال.
وتقدم من بين صفوف الجالسين شاب طويل القامة عريض المنكبين، لم يجل نور القمر الشاحب قسمات وجهه، وأسدل ظلا على أسماله البالية.
دنا من صاحب القهوة وقال: نعم؟
فقال له الرجل: اقعد يا عم .. يريد البك أن يسمع غناءك.
وقال دانش: نعم .. أسمعنا .. أسمعنا.
ثم التفت إلى صاحب القهوة وقال: يا معلم .. هات «للأستاذ» جوزة.
ناپیژندل شوی مخ