فلم ينبس بكلمة، وظل على جموده واكفهراره، وتمالك الوجيه عواطفه فعجب لما يدفع مثل ذلك الرجل إلى الانتحار وهو لا يعلو على الحيوان - والحيوان في العادة لا ينتحر - فسأله: هل كنت حقا تروم الانتحار؟ لماذا؟ .. دعني أشم فمك، هل أنت ثمل أم مجنون؟ .. تكلم يا حيوان.
فقال الرجل بصوت مبحوح دل على الحقد والاستهانة: أنا جائع.
فنظر إليه كالمرتاب وقال: كذبت .. إن الكلاب الضالة تجد قوتها .. ولن أصدق أن إنسانا يموت جوعا في هذا البلد .. ولكن هل تدمن الحشيش أو المنزول؟
فقال بنفس اللهجة: لك عذرك .. فإنك لم تعرف الجوع .. هل ذقت الجوع؟ .. هل بت ليلة بعد ليلة تتلوى من عض أنيابه؟ هل ثقب أذنيك عويل أطفالك من نهشة أمعدتهم؟ .. هل رأيت صغارك يوما يمضغون عيدان الحصيرة ويأكلون طين الأرض؟ .. تكلم يا إنسان .. وإذا لم يكن لديك ما تقوله فلماذا تحول بينهم وبين الخلاص من غائلة الجوع؟
فامتعضت نفسه، وسأله بلهجة لم تخل من شك: أتعني حقا أن لك زوجا وأطفالا؟
ففطن الرجل إلى بواعث شكه، وعبس وجهه امتعاضا وقال: كنت يوما قادرا على الزواج والإنفاق .. كنت عاملا بمصانع عبد القوي شاكر.
وأحدث الاسم في نفس الوجيه هزة عنيفة لأنه اسم والده، وكان يوشك أن يسأم ويضجر، فاسترجع اهتمامه وسأل الرجل: هل حقا كنت عاملا مرتزقا؟! - نعم .. وبلغت يوميتي ستة قروش .. وكنت محترما ومحبوبا، وكفلت الحياة لزوجي وأمي وأطفالي الستة، بل كنت أعظم جلدا من البك صاحب المصانع العظيمة؛ لأني تعودت الرضا والقناعة حيث جعل يتذمر ويشكو سوء الحال ويعتل بالعلل لقطع رزق البعض والتقتير على البعض الآخر .. لم تكن الحياة رغدا ولا يسرا .. ولكنها كانت مشقة بالرجاء والأمل.
وأمسك الرجل عن الكلام كأن استرجاع الذكريات الحلوة استنفد البقية الباقية من حيويته وقواه، فجزع الوجيه وقال له: هيه .. وكيف انقلب بك الحال إلى هذا المصير؟
فرفع يمناه إلى أعلى فتدلى كم الجلباب الممزق كأنه لا يوجد فيه ما يمسك به، وبرز من أحد خروقه بقية عضده كأنه رجل أريكة تداعت وأكلها التقادم، وأشار إليها بيسراه وقال: أرأيت إلى هذا؟ .. لقد هوت الآلة الجبارة على ذراعي وأنا منشغل عنها بما بين يدي فلن تبق منه إلا على ما ترى، وأطاحت بالجزء النافع الذي أكسب به قوتي، فجعلتني في ثانية شيئا تافها عن الحاجة .. ولما تماثلت للشفاء مضيت إلى البك صاحب المصنع منكسر الفؤاد مفعم النفس بالقنوط، فتلقاني آسفا وأعلن أني قطعت ذراعي من جراء إهمالي، فقلت له إنه القضاء الذي لا يرد، فهز رأسه آسفا وتصدق علي بمبلغ يسير، فقلت له إن هذا المبلغ نافد عاجلا أو آجلا، وإني وأسرتي سنموت جوعا إذا لم تدركنا رحمته .. فوعدني أن يتصدق علي بثلاثين قرشا كل شهر .. وكان هذا أقصى ما ظفرت به منه، وأدركت أن حياتي دمرت تدميرا، وأني وأمي وزوجي وأطفالي الستة قد ألقي بنا إلى الفقر والجوع .. ولشد ما وجدت الحياة قاسية لا رحمة فيها .. فتجرعت مرارتها قطرة فقطرة، وهمت على وجهي في الطرقات أسأل السابلة مستدرا رحمتهم بعرض بقية عضدي على أنظارهم، متلهفا على الملاليم وكسر الخبز. وعلم الله أني كنت ذا حياء وأنفة، وأن إماتة هذه العاطفة النبيلة كلفني ما لا أطيق من الألم والخجل، واشتدت وطأة العيش فبعت الضروري من أثاث حجرتنا بثمن بخس، وتمزقت ثيابنا وتعرى الأطفال .. وتهالكنا من الجوع .. وكان أقسى ما في حياتنا صراخ الأطفال وعويلهم وشكواهم؛ فجوع دهر طويل أخف على نفسي من قول طفلي وهو يتطلع إلي كالمستغيث ودموعه منهمرة: «أبتي .. أنا جائع.» ولاحقتني هذه الآلام فجعلت صدري جحيما، وبغضت لي الدنيا، وولدت في قلبي شعور المقت والحقد، وتضاعف إحساسي بعجزي وهواني حتى قال صاحب ممن جمعنا الجوع في ميدان واحد: «ما لك تكلف نفسك ما لا تطيق من الهم كأنك امرأة مترفة تأكل كل يوم رطل لحمة .. سيتحجر قلبك ويصبح الجوع مستملحا، فتجيب ابنك إذا شكا إليك الجوع كما أجيب ابني .. بلطمة تنسيه الجوع.»
وسكت الرجل وقد بلغ منه الإعياء والتأثر، وبدأ الوجيه يضجر مرة أخرى ويفكر في حل للعقبة التي اعترضت سبيله ليتخلص منها على وجه مرض، فسأل الرجل: أهذا ما دفعك إلى محاولة الانتحار؟
ناپیژندل شوی مخ