وأمسك بكفها وقام واقفا فقامت بدورها، واتجه نحو السلم وهي تتبعه وارتقياه بسرعة، فوجدا نفسيهما في ردهة مضاءة بنور بنفسجي هادئ تطل عليها أبواب متباعدة، فسارا إلى هدفهما ودخلا معا، ثم ردا الباب في سكون، وكان الجو مظلما شديد الظلمة، ولكنه كان يعرف المكان فانعطفا إلى اليمين وتقدما خطوات حتى عثرت يده بكنبة كبيرة وثيرة، فجلس وجلست، وتنهد من أعماق صدره وقبض على كفها فوجدها ترتعش كالمقرورة، فسرت رعشتها إلى قلبه ووجد به غمزا لم يبرأ منه حتى ضمها إلى صدره بعنف وانهال على وجهها يقبله بشغف وجنون، كم لبثا منفردين إنه لا يدري، ولكن المحقق أن تلك الخلوة السعيدة لم تخل مما ينغصها؛ فقد خيل إليهما أن أقداما خفيفة كالمحاذرة تدنو من باب الحجرة، فتباعدا واقفين وأرهفا السمع واتجهت أعينهما في الظلام ناحية الباب، وخالا أكثر من هذا بأن يدا تعالج الباب بلطف .. ترى أحق هو أم وهم؟! ولكن الباب تحرك ونفذ إلى الحجرة شعاع هادئ كروح محتضرة، فاشتد بهما الرعب وودا لو تبتلعهما الأرض. وما لبث أن تسلل شبح في حذر وتبعه آخر، ثم رد الباب إلى ما كان عليه فساد الظلام مرة أخرى، وكان الداخلان شديدي الحذر فلم يبديا حركة ولم يصدرا أصواتا وكأنهما ذابا في الظلمة الجاثمة .. فسكن ذعر الآخرين وأحسا بشيء من الارتياح بل والطمأنينة، وخطرت لهما فكرة معا هي أن الضيفين الجديدين مثلهما، وأن لا خطر عليهما منهما، وتأكد هذا الظن حين شعرا بهزة تصيب الكنبة فعلما أن صاحبيهما اختارا كنبتهما مقعدا لهما أيضا، وتريثا في قلق صار بعد حين ضيقا وكدرا؛ لأنهما لم يستطيعا أن يأتيا حركة خشية أن يتنبه الآخران فيفزعا، وربما حدث ما لا تحمد عقباه.
أما الجديدان فكانا يظنان نفسيهما في أمان وخلوة فلم يحاذرا إلا بمقدار، واستطاع العاشقان أن يسمعا همسا وهمهمة، وأن يسمعا الرجل يهانغ صاحبته وهي تهانغه، ولم يكتفيا بذلك بل قال بصوت استطاع الآخران أن يميزاه: حبيبتي .. صفية.
وارتجف محمد بك جلال كأنما قطعة من الثلج ألقيت على ظهره، وأحس بارتجاف يد صاحبته في يده .. كان الصوت صوت طه بك العارف. ومن هدي؟ أليست زوجه هو؟ .. أي كارثة تجمعت في هذه الحجرة المظلمة! ودق قلبه بعنف وغلى دمه غليانا كاد يفجر الشرايين في دماغه، ولكنه لبث ساكنا صامتا وزوجه على قيد ذراع منه في أحضان خليلها! ولم يكن يأسف على عجزه عن تحطيم رأس الرجل؛ - فمثل هذا العمل يثير فضيحة حرية بالقضاء على مستقبله السياسي ومعركة الانتخابات على الأبواب - ولكنه كان مغيظا محنقا لأن غريمه لا يدرك في تلك اللحظة أن زوجه بين يديه هو أيضا.
وانتظر دقائق كالأجيال، وشعر أخيرا بحركة استدل بها على قيام الرجل، وسمعه يقبل زوجه بحرية ويقول لها: لو تعدل الدنيا .. زوجك الغبي ليس أهلا لك وزوجتي ليست أهلا لي، ولكن، ولكن ما العمل؟ ثم تسللا خارجين كما أتيا.
وكان الغضب قد أفسد على جلال بك مزاجه فقام هائجا، وبحث عن سترته حتى عثر عليها وأخذ بيد صاحبته وخرجا في حذر ثم افترقا في الردهة.
ولبث ضيق الصدر شديد الكدر ساعة طويلة، يلعن طه بك ويلعن زوجه المستهترة. ولم تكن هذه أولى خياناتها، ولكنها وقعت على كثب منه بحال بشعة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة .. فسحقا لهما .. وقام يتمشى في الحديقة فارا بوجهه الممتقع من الأعين جميعا. ولفحه هواء الليل البارد فرطب جبينه الساخن وأنعش فؤاده المضطرم، وصح عزمه في تلك اللحظة على أن يسلم قياده لمغامرات الغرام الجنونية غير مبق على شيء، ولو أدى الجنون إلى الظهور مع هدى في المجتمعات العامة وميادين السباق. وتملقته هذه الخواطر فأحس بارتياح ومضى يفيق من همومه ويتنبه إلى نفسه، فاستطاع عند ذلك أن يشعر بتغير غريب، فعجب لشأنه وتناسى انشغاله، وبحث عن أسباب هذا التغير فوجد يديه تجسان السترة وكأنها أوسع مما كانت .. ماذا حدث لها؟ يا للعجب .. إنها أوسع مما يتصور. وخطر له خاطر غريب اضطرب له فؤاده، ولكي يتحقق من وساوسه وضع يده في جيب السترة وأخرج حافظة، لم تكن حافظته، ووجد بها بطاقة مكتوبا عليها «طه بك العارف».
ووضح الأمر، وعاوده القلق والحنق، ولم يكن ثمة خوف من الفضيحة؛ فسترات بدل السهرة متشابهة، لكنه يشعر بحيرة شديدة ويسائل نفسه: «كيف يمكن أن تتبادل السترتان؟!»
مرض طبيب
قبل عامين تفشى وباء التيفود في مديرية الغربية تفشيا مخيفا فتك بنفوس الكثيرين، وصادف ذلك انقضاء بضعة أشهر على تعيين الدكتور زكي أنيس طبيبا بمستشفى طنطا وفتحه عيادته الخاصة، وكان في تلك الأيام يلاقي الشدائد المقضي على كل مبتدئ في فنه أن يلقاها أول عهده بالحياة العملية؛ فكان ينتظر طويلا، وعبثا توارد الزوار والمرضى مستوصيا بالصبر والتجلد حتى كاد يلحقه الجزع؛ فلما تفشى ذاك الوباء الخبيث تضاعف عمله بالمستشفى وشحذ نشاطه ومضى يراقب حركة السيارات التي تطوف بالبيوت وتعود محملة بالضحايا بعينين كئيبتين وعزيمة متوثبة، وأحس بالرغم من كل شيء بسرور خفي، وأحيا قلبه الأمل في أن يدعى يوما لعلاج مصاب من الذين تثقل بهم جيوبهم عن الانتقال إلى المستشفيات العامة، ولم ييئسه تقاطر الناس على كبير الأطباء وبعض الأطباء القدماء بالمدينة، وأصغى إلى هاتف تفاؤل ما انفك يهمس لقلبه بأن دوره لا محالة آت.
وصدق أمله، وإنه ليجلس إلى مكتبه يوما يقلب صفحات كتاب وتجري عيناه على أسطره جريان الشرود والملل إذ طرق بابه كهل يدل منظره الوجيه وزيه الريفي الثمين على أنه من الأعيان، ولعله قصده بعد أن يئس من العثور على سواه، فطلب إليه بلهجة تنم على القلق أن يصحبه إلى العامرية على مسير ربع ساعة بالسيارة. وكان الشاب يعد العدة لمثل هذا اللقاء، فلم يبد على وجهه أثر مما اضطرب في صدره من الفرح والظفر، فألقى على القادم نظرة رزينة وقام من فوره فخلع معطفه الأبيض وارتدى الجاكتة والطربوش، وأخذ حقيبته وتقدمه إلى الطريق. والتقى أمام الباب بسيارة فخمة فخفق قلبه مرة أخرى، وتريث حتى فتح الرجل الباب وقال له: تفضل.
ناپیژندل شوی مخ