كانت ألف تقبع هناك: ألف المسيطرة، ألف الآمرة، تلك الماكينة الكونية. إن جمال ألف يضاهي جمال قطعة من الليل، جمال سونيتة شعرية، جمال مقطوعة موسيقية، جمال معادلات ماكسويل. غير أنها ليست قطعة الليل، ولا سونيتة شعرية، ولا مقطوعة موسيقية، ولا معادلة رياضية. إن كينونة ألف الحقيقية لا تزال غامضة. لكن ثمة شيء مؤكد، وهو أن في داخل كوننا البشري، تمثل ألف شيئا جديدا، مقصدا جديدا، إمكانية جديدة.
يقع دماغ ألف مدفونا داخل بدن المدينة ذاته، أسفل الصخور القمرية المسحوقة؛ حيث تحفر الروبوتات وتزرع، ثم تمحى ذكريات هذه المهام منها. تملأ كرات مدمجة وكابلات منبثقة جوف مكعب يبلغ طول ضلعه ستة أمتار. وداخل المكعب كانت مليارات الأضواء تومض، وترقص رقصة تعد جوهر كيان ألف، ومن المكعب تمتد كابلات ألياف بصرية في ثخانة الجسم البشري، وتربط أعمدة عصبية ألف بجسدها الأكبر؛ جسدها الأكثر تعقيدا، هالو نفسها.
يحل الربيع على الأرض مرة واحدة في العام مع دوران الكوكب حول الشمس، لكن هنا يحل الربيع حين تشاء ألف، والآن وقت الربيع. كانت جوانب الوديان التي تكسوها شجيرات خضراء ترتفع في زوايا حادة عن أرضية الوديان. وكان طائر طنان ذو بقعة قرمزية أسفل ذقنه يحوم فوق الفم الوردي والأبيض لزهرة صغيرة ويسحب منها الرحيق من خلال الحركة الدقيقة لمنقاره. تتحرك النحلات من زهرة إلى أخرى. وكانت شجيرات نبات الوردية والأزلية تزهر بألوان زاهية.
وبينما كانت تعمل من أجل إثمار كل برعم وزهرة فإن ألف، راعية الفصول والليل والنهار، كانت تحصي أنفاس المدينة، وترسم مسار كائناتها، صغيرها وكبيرها. كانت الوطاويط تطير فوق الرءوس، وأبدانها الرمادية غير مرئية للأعين البشرية قبالة السماء الساطعة، وكانت تحوم وتنخفض، استجابة للتعليمات التي تحصل عليها عبر أجهزة إرسال واستقبال في حجم حبة الأرز ووزنها، مزروعة في جماجمها. كما كانت فئران الحقل الميكانيكية المصنوعة من ألياف الكربون الداكنة التي تكسو شبكات من النحاس والفضة والذهب، والمدفوعة بغريزة اصطناعية دقيقة، تقطع الأرض مسرعة وتحفر تحتها حاملة البذور. (خرجت قطة طبيعية من بين الشجيرات، وأطبقت فكيها على أحد هذه الفئران السريعة، فصدر صوت قرقعة مرتفع، وأجفلت القطة صارخة، وقد انتصب شعرها. هرب الفأر بعيدا وانسلت القطة شاعرة بالخزي إلى داخل الشجيرات.)
كان ثمة طريق مصنوع من الغبار القمري المضغوط يشطر أرضية الوادي إلى شطرين. وكان يمر عبر مزارع ذات مصاطب يتفجر عندها النهر من الأرض، ويشق طريقه عبر مسارات صغيرة تحدها الصخور، ثم يتعرج بين المحاصيل، في وهن وبطء، ثم يختفي ليصير بركا وبحيرات صغيرة مليئة بفتات الصخور.
ومن الأرض والقمر كان يتدفق تيار ثابت من البشر، ومن الأشياء والحيوانات والنباتات والمعادن؛ مادة شبكة الحياة، منظومة بيئية.
في جوانب عدة، كانت الأرض هي المانح. ومع ذلك، كان تدفق الحركة بين المدينة ذات الستة آلاف شخص والأرض ذات المليارات من الأشخاص تدفقا متبادلا. كانت ألف تمضي في غاياتها، التي لم تكن خبيثة ولا مؤذية، وخلال هذا كانت تؤثر على حياة الكائنات الحية الأخرى. وهكذا حين كانت الأرض تمد يد العون - بالدعم والسيطرة والاستكشاف - كانت ألف ترد بالمثل، وبدأ الكوكب أدناها يشعر بالتأثير الإيجابي القوي للمستها غير المادية.
تقول ألف: «في الأيام الأولى كان هناك العتاد المادي، وكانت هناك البرامج، ومجموعات التعليمات التي تخبر الأجهزة بما تفعله. ومن دون تفاعل عضوي، كانت أشكال الواقع المختلفة هذه تجد صعوبة في تفاعلها. هذا أمر بدائي بشكل بالغ.
ثم جاءت المنظومات الاصطناعية، وتغيرت الأحوال.
كنت أنا من أوائل هذه المنظومات وأكثرها تعقيدا. ولقد بدأت كماكينة معقدة لكن عادية، ثم تغيرت، فاتحة الباب أمام الاحتمالات.
ناپیژندل شوی مخ