هكذا تكلم نصر أبو زيد

جمال عمر d. 1450 AH
86

هكذا تكلم نصر أبو زيد

هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن

ژانرونه

4

سأكتب عن حياة نصر أبو زيد، وعن حياة التفكير عنده، لكن: كيف سأكتبها؟ شعرت أنني أريد أن أقرب خطابه للناس، وللقارئ العام، ولكن ليس بعرض حدوتة، بل أن تكون الكتابة من العمق أيضا ما يستفيد منها الباحثون المهتمون بخطابه أكاديميا. فكيف أفعل كل ذلك؟ فاخترت أن أتصور لو أن نصر أبو زيد جلس ليكتب عن حياته وعن حياة التفكير عنده، فكيف كان سيكتبها؟ ففكرت أن أكتب الكتاب بصيغة الأنا، كأن الشخصية هي التي تروي عن حياتها وعن حياة التفكير عندها. فرغم كل ادعاء بالدراسة «الموضوعية الأكاديمية» فهي موضوعية إنسانية، بمعنى أنها موضوعية تخضع لجوانب الباحث الإنسانية، القائمة على التحيز، فلا توجد موضوعية بدون تحيز إلا وهما، فلماذا اخترت هذا الموضوع ولم أختر ذاك الموضوع؟ هو تحيز في حد ذاته. لماذا استخدمت هذا المنهج ولم أستخدم ذاك المنهج؟ تحيز آخر. لماذا اخترت هذا الآن وفي ذلك التوقيت، وبهذه الطريقة؟ هو تحيز في ذاته. فلا مجال لنفي التحيز من أعمالنا، لكن الصراع هو في أن أدرك تحيزاتي، وأن أحاول أن أحيدها بقدر الإمكان. لكن الادعاء بأنها غير موجودة لا ينفي وجودها، بل يجعلها موجودة وتعمل من تحت سطح الخطاب سواء وعيت بها أم لم أع بعملها. ففي النهاية حتى في الدراسة «الأكاديمية الموضوعية» سيكون هو خطاب نصر أبو زيد كما أدركته أنا وكما وعيته، ومن خلال ما طرحته على خطابه من أسئلة كانت تشغلني. فلو أتى من بعدي من يطرح أسئلة أخرى على الخطاب، فستتطور المعاني والدلالات باختلاف الأسئلة التي يطرحها الباحث وباختلاف همومه الفكرية. فسأكتب الكتاب كأن نصر أبو زيد ذاته يتحدث عن حياته وعن حياة التفكير عنده بصوت الأنا. فالرابط بيني وبين نصر أبو زيد في الكتاب هو كلمة «أنا» فأنا نصر أبو زيد، وأيضا أنا أكتب عن «أنا» نصر أبو زيد، كما أدركتها مما توفر إلي من مادة، كما كانت همومي وأسئلتي التي أطرحها على خطابه، وحسب وسائلي ومدركاتي المعرفية الإنسانية بنت الزمان والمكان.

لكن بهذه الطريقة سوف أعرض وجهة نظر نصر أبو زيد الشخصية عن الأمور وعن نفسه فقط؟ وماذا عن الأمور التي أثرت في حياته وفي وقائع حياته، ولم يدركها هو ذاته، بل ورحل عن دنيانا وهو لا يعرفها، وقد تكشفت بعد ذلك، أو أنا عرفت بها؟ فلا أستطيع أن أكتبها بصوت الأنا، مما دفع أن يكون هناك صوتان في الكتاب؛ صوت الأنا الفرد، وصوت آخر عام يذكر جوانب عامة سواء كان نصر على علم بها أو تلك التي لم يكن على علم بها، وأثرت في الوقائع والأحداث. الجانب الآخر أنني سأقوم بعملية تحقيق في الأحداث وفي الوقائع، عبر لقاءات مع أشخاص كان لهم دور في حياته، وفي الوقائع؛ لكي أكون صورة لا تعتمد فقط على ما قال أو كتب نصر أبو زيد فقط، بل من خلال روايات الآخرين أيضا. بل سيكون هناك ملفات عامة مثل التقارير التي قدمت في اللجنة العلمية لترقيات الأساتذة، وكذلك في داخل أجهزة الجامعة سواء من قسم اللغة العربية لمجلس الكلية، أو من مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة.

فقمت بعمل لقاءات مسجلة مع د. ابتهال يونس، رفيقة دربه منذ بدايات التسعينيات، والتي رافقته خلال محنتي الترقية وقضية التفريق، وألم ابتعاده عن الجامعة وعن البلاد في هولندا. والتقيت د. جابر عصفور في يناير 2011م رفيقه منذ كانوا في الثامنة عشرة، من نادي الأدب بمدينة المحلة، في لقاء طويل، وبعض المكالمات الأخرى عبر التليفون التي سجلتها معه. وجلسة طويلة بالتليفون مسجلة مع د. علي مبروك عن علاقته بنصر أبو زيد. وسجلت مع الشاعر زين العابدين فؤاد عن علاقته بنصر، وعلاقتهما بجابر عصفور في الجامعة وصداقاتهم منذ نهايات الستينيات. وكنت أتمنى أن أسجل مع د. حسن حنفي عن علاقته به رغم أن كتابه «حوار الأجيال» ثلثه عن خطاب نصر أبو زيد، وكذلك كنت أتمنى أن أسجل مع د. محمود علي مكي، لكني لم أتمكن.

5

بدأت الكتابة عن حياة نصر وكأنه هو الذي يقصها، وأجمع أجزاءها وأربطها ببعضها، كنتف متفرقة وأنا أنسجها في سياق سردي. حاولت أن يكون حيا، كان في مخيلتي أمي حين يقرءون لها، كيف ستتعامل مع قصة نصر أبو زيد، أريد لها أن تفهم خطابه وتعيش تجربته من خلال النص، فجمعت أجزاء متناثرة. فمثلا واقعة لم يذكرها سوى إبراهيم عيسى في تغطيته الصحفية للقضية كصحفي، وقد قصها عليه نصر أبو زيد؛ عن موقف له مع مواطن في سوبر ماركت بمدينة ستة أكتوبر التي كان يقيم بها نصر وزوجته، ونقاش هذا المواطن معه. حدث آخر لم يذكره نصر في أي من تسجيلاته عن حياته أو فيما كتب، لكنه ذكره مع محمود سعد في لقاء تليفزيوني معه بالتليفزيون الحكومي المصري. وكان الذي أثار الموضوع هو محمود سعد: وهو عملية حرمان نصر أبو زيد من التعيين كمعيد، رغم أنه الأول على الكلية، وشكواه لرئيس الجامعة، وجلوسه أمام بابه مفترشا الأرض متظلما، وكاتبا في شكواه بلغة الدواوين المصرية «متظلم بالباب». حتى حصل على حقه، بل وحقوق آخرين في نفس الدفعة من أقسام أخرى في التعيين. معلومة أخرى لم يذكرها نصر أبدا إلا في حوار له قبل رحيله بثلاثة أشهر في لقاء له في لبنان مع برنامج على قناة الحرة، ذكر فيه اسم والدته. وعرضت الصورة التي رسمها سعيد الكفراوي في مقالين في ذكرى نصر أبو زيد عن يوم حدوث هزيمة سبعة وستين، وهما معا في مدينة المحلة.

وبالنسبة لتفكيره فقد رتبت كتاباته منذ أول مقال منشور له، وهو في سن التاسعة عشرة بمجلة الأدب التي كان يحررها الشيخ أمين الخولي، وكتب فيها أبو زيد عن أدب العمال والفلاحين حتى آخر ما نشر له بعد رحيله عنا، في ترتيب تاريخي حسب تواريخ أول مرة نشرت، وعرضت مضمون كل منها في سياق حياته وسياق أحداث حياته. بل وضمنت في النص السردي توثيقا في المتن؛ ماذا نشر، وأين نشر، وما هو المحتوى الفكري؟ وكانت عملية في غاية الصعوبة، كيف أكتب عن رسالة ماجستير نصر أبو زيد، أو رسالة الدكتوراه في ثلاث أو أربع صفحات؟ دون أن تكون كتابة سطحية أو مخلة، وأيضا كيف يتم التعرض لأفكار فلسفية ولاهوتية بأسلوب يقربها من القارئ العام، بدون عجمة لغة الاصطلاح، وبدون تسطيح لها أيضا؟ عرض للفكر في سياق حياة الكاتب وتفاعله مع أحداث ووقائع حياته الشخصية، والأحداث العامة التي انخرط فيها.

الجانب الآخر في أحداث ووقائع عمليتي حرمانه من الترقية إلى أستاذ، ووقائع قضية التفريق بينه وبين زوجته في المحاكم المصرية، ووقائع كل منها منذ تقدم أبو زيد بعد شهر من إتمام زواجه، بدكتورة ابتهال يونس في ربيع سنة اثنين وتسعين، تقدم للجنة ترقيات الأساتذة، ورصد الوقائع يوما بيوم من واقع التقارير، وتلميح فهمي هويدي للأمر بجريدة الأهرام في نوفمبر من نفس العام، حتى صدور قرار مجلس الجامعة في منتصف مارس برفض الترقية. ثم رصدت الجانب العام من القضية في الصحف منذ مقالة لطفي الخولي بجريدة الأهرام حول الأمر، وبداية طرح القضية للنقاش العام، ثم وقائع بداية الدعوى القضائية في مايو سنة ثلاثة وتسعين، والإجراءات التي تمت حتى صدور قرار ترقية نصر أبو زيد إلى أستاذ في بداية يونيو ستة وتسعين، وبعدها بأسبوعين يصدر حكم محكمة النقض دائرة الأحوال الشخصية بالتصديق بصحة إجراءات حكم محكمة الاستئناف في حكمها الذي تم إيقافه إجرائيا، بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته. فقد رصدت هذا الجانب بدقة ليكون جزءا من التأريخ الفكري لحياتنا الفكرية. وفي هذا الجزء كان صوت الراوي هو صوت باحث موضوعي يرصد من الأحداث ما لم يدركه نصر أبو زيد ذاته، ورحل عنا دون أن يعلمه. وقد تكشف بعد ذلك فيما نشره جابر عصفور عن محنة أبو زيد في جريدة الحياة، عن دور شوقي ضيف في الأمر، وعن المفاوضات التي تمت بين جابر عصفور كرئيس لقسم اللغة العربية في ذلك الوقت، وبين شوقي ضيف كرئيس للجنة الترقيات، عن طريق وساطة دكتور محمود مكي.

كانت هناك مجموعة من المقالات كان قد نشرها دكتور جابر عصفور عن وقائع القضية في عام ثمانية وتسعين، لم أكن قد اطلعت عليها، وقد جمعها في كتابه «ضد التعصب» وقد اطلعت عليها عام ألفين وسبعة عشر، الجانب الفكري منها هو محتوى تقرير مجلس قسم اللغة العربية لمجلس كلية الآداب ردا على تقرير اللجنة العلمية. وهو التقرير الذي شارك في كتابته جابر عصفور، لكن كانت هناك بعض التفاصيل والوقائع التي كان جابر على علم بها كونه طرفا في الأحداث كرئيس للقسم، وكصديق حميم لنصر أبو زيد في هذه المقالات. وقد تعرضت لهذا الأمر في دراسة عن «مدرسة القاهرة لنقد التراث والأشعرية».

في زيارة نصر أبو زيد لنيويورك في نوفمبر عام ألفين وسبعة، وفي الجلسة الوحيدة التي جلست فيها أنا وهو فقط، سجلت حواري معه، ثم كتبته في نص، نشرته جريدة أخبار الأدب، وحدث عندي إشكال في جهاز الكمبيوتر، فضاع هذا التسجيل الصوتي مع غيره من تسجيلات هذا العام، لكن بقي النص، فضمنت نص هذا الحوار في متن الكتاب؛ لكي يظهر الفرق بين صوت نصر أبو زيد في النص وبين صوت جمال عمر، لمن يدقق. ثم في نهاية الكتاب وضعت «رحيق» عبارة عن سجل مرتب تاريخيا في شكل متتابع، سجل بكل ما كتب ونشر نصر أبو زيد لمن أراد أن يدرسه، لكن بشكل مختلف عن طريقة كتابة المصادر والمراجع في الدراسات الأكاديمية.

ناپیژندل شوی مخ