هكذا تكلم نصر أبو زيد
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
ژانرونه
فكان السؤال الذي تولد عند أبو زيد: هل يمكن أن نصل لمعنى موضوعي للنص، لا يخضع للتحيزات الأيديولوجية المسبقة؟ أو بمعنى آخر: هل يمكن أن نصل لمعنى حقيقي صحيح للنص؟ فقام بدراسة علوم القرآن في صورتها الأخيرة التي صاغها الزركشي والسيوطي، للبحث فيها عن مفهوم النص المتداول في علوم اللغة الحديثة وعلوم تحليل النصوص، وهل له وجود أو له بذور مدركة عند القدماء في الثقافة التراثية؟ فمن خلال كتابه «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» حاول أبو زيد ربط الدراسات القرآنية بتحليل النصوص الحديثة، وبعلوم اللغة والبلاغة كما كانت عليه عند المعتزلة وعبد القاهر الجرجاني من القدماء، وكذلك عند محمد عبده والشيخ أمين الخولي من المحدثين. وبنى كل ذلك على التصورات اللاهوتية الاعتزالية، في علاقة القرآن بالتاريخ من خلال مفهوم خلق القرآن وحدوثه في الزمن، في مقابل التصورات اللاهوتية الأشعرية، والتصورات السلفية التراثية حول قدم القرآن وعدم ارتباطه بأحداث الزمان والمكان والأشخاص، فكان أبو زيد يدافع عن فهم صحيح في مواجهة أفهام خاطئة، ويدافع عن فهم واضح قائم على العقل وعلى الدليل في مواجهة أفهام مخادعة منافية للعقل وأدلته.
ومنذ نهايات الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، انتقل أبو زيد من التعامل النقدي مع جهود القدماء والتراثيين إلى مواجهة نقدية مباشرة مع التيار الديني المعاصر ورسالته الإعلامية وخطابه حول الدين وحول التراث. وفي خضم حالة السجال خلال قضية عدم ترقيته للأستاذية بالجامعة ومحنة قضية دعوى التفريق بينه وبين زوجته؛ انخرط أبو زيد في عملية نقدية للذات، أدرك خلالها أنه يقوم خلال عملية الرد على تأويلات خصومه بتأويلات سجالية، وأنه وإن كان يصل إلى نتائج مختلفة عن النتائج التي يصل إليها التيار النقيض، إلا أنها مبنية على مسلمات مشتركة مع خطاب ذلك التيار. وأنه مهما كانت تأويلاته أكثر عقلانية أو أكثر إنسانية وأكثر احتواء إلا أنها هي أيضا تقوم على مبدأ التأويل والتأويل المضاد، فكان نقده لدراساته السابقة عن رؤيته للمعتزلة، ونقد مفهومهم للعقل، ونقد محدودية تصوراتهم عن الحرية، وكونها مفاهيم محدودة بحدود عصورهم وحدود تجربتهم التاريخية وسقفها المعرفي. وكذلك نقده لدراسته لابن عربي، وكيف أنه وقف عند حدود منطوق كلام ابن عربي وليس بكيف يقوله، ولا بالمسكوت عنه في خطابه. ونقد منهج أستاذه حسن حنفي، المنهج القائم على «التلفيق»، وعلى تعبئة مضامين جديدة في قوالب علم أصول الدين القديمة، مما حول جهود حنفي إلى مجرد إعادة طلاء للبيت القديم، وليست إعادة بناء لعلوم القدماء.
وهكذا توصل نصر أبو زيد إلى أنه في سعيه للوصول إلى معنى حقيقي عقلاني، واضح من آيات المصحف، فإنه يقوم بعملية تأويل مؤسسة على نفس المسلمات اللاهوتية للخطاب النقيض، وبرغم من أنها تؤدي لنتائج مضادة لنتائج الخطاب التقليدي، إلا أنها في نهاية المطاف تعمل على ترسيخ ذات المسلمات اللاهوتية. فمثلا حينما يعتمد الخطاب النقيض على استخدام النصوص ويتم الرد عليه بنصوص أخرى؛ فبرغم النتائج المختلفة لقراءة النص، فإن هذا النهج - الذي يعتمده كلا التيارين - يؤدي إلى ترسيخ مبدأ «سلطة النص». وكذلك يرسخ لقاعدة أن كل عمل أو رأي لكي يحظى بالشرعية، فلا بد أن نبحث له عن نص، يمنح العمل أو الرأي شرعية الوجود. وقد أوضح أبو زيد هذا الملمح في دراسته؛ عن كيف همش خطاب أبو حامد الغزالي، خطاب ابن رشد داخل الثقافة؛ لأنه رغم منطلقات ونتائج ابن رشد المختلفة عن منطلقات ونتائج خطاب الغزالي، إلا أنه في سجاله معه تسربت مفاهيم الغزالي إلى خطاب ابن رشد. في ذلك الوقت، بدأ أبو زيد يدرك أنه تعرض لنفس ما حدث لابن رشد، وأن منهج الخطاب النقيض تسرب إلى خطابه أثناء حالة السجال التي عاشها خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. وهكذا شهدت الفترة التي أعقبت خروجه إلى أوروبا مراجعته العميقة لمنهجه في التعامل مع وفهم نصوص القرآن، وأدرك أنه رغم تباين تأويلاته الدينية ونتائجها عن نتائج الخطاب الديني التقليدي بتياراته المختلفة، إلا أنه ما زال داخل نفس البيت اللاهوتي وتحت نفس السقف المعرفي، فكانت عملية إعادة النظر في المفاهيم الأساسية التي ينطلق منها، ومنها بحثه في مفهوم «ما هو القرآن؟» وإعادة النظر في التصورات المرتبطة به في الثقافة، بما فيها إعادة النظر في مفاهيم وتصورات التيار الاعتزالي ذاته عن القرآن.
أيضا كان لمفهوم محمد أركون حول «الظاهرة القرآنية» وتركيزه على عملية تحول القرآن من خطاب شفاهي إلى مصحف مدون، ودور عملية التدوين وشروطها، وتأثيرها على تحديد وتحجيم دلالات القرآن، دور رئيسي في إدراك أبو زيد أن التعامل مع المصحف على أنه كتاب أو على أنه «نص»، حتى لو استخدمنا كلمة «نص» بالمعنى الحديث لها، ليدرك نصر أن النظر للمصحف على أنه نص أو على أنه كتاب، ولا بد أن يكون له معنى مركزي واحد. إن هذا التصور عن المصحف هو الأساس المعرفي وراء كل عمليات التأويل والتأويل المضاد التي جعلت كل تيار يحاول جذب النص لينطق بمنطلقاته الفكرية، ويجعل تأويلات المخالفين له في الهامش، فينطق المصحف بالشيء ونقيضه حسب من المتحدث وحسب من المستشهد، وبأي نصوص آيات يستشهد وكيف يستشهد بها.
ومن هنا بدأت رحلته لإعادة النظر في مفهوم القرآن وفي تعريفنا له، وتوصل أبو زيد إلى أنه برغم استبدال مفهوم خلق القرآن عند المعتزلة بمفهوم قدم القرآن عند الأشاعرة، إلا أننا نظل في أسر تصورات القدماء، التي هي بنت عصرها. فالمعتزلة والأشاعرة، رغم اختلافهم، فإنهم ينتمون إلى نفس البيت المعرفي، المحدود بالسقف المعرفي للزمن الذي ينتمون إليه، وعلينا أن نخرج من أسر البيت المعرفي القديم ونتجاوز سقفه المعرفي المحدود، ولا نكتفي بمجرد الانتقال من غرفة في بيت التراث إلى غرفة أخرى في نفس البيت، فنحن ما زلنا تحت نفس السقف وفي نفس المدينة. من هنا كانت رحلة انتقال أبو زيد من تعريف القرآن ك «نص» إلى تعريف القرآن ك «خطاب» أو كخطابات.
2
رغم أن كلمة «نص» كانت تستخدم قديما بدلالة مختلفة عن استخدامنا لها الآن، فعند القدماء كانت تشير إلى درجة من درجات وضوح المعنى وغموضه، على مقياس الوضوح والغموض لدلالات ومعاني التركيب اللغوي، حيث كان يمكن أن تقسم الدرجات حسب تدرجها من الوضوح الكامل إلى الغموض الكامل هكذا: «النص، الواضح، المؤول، المشكل، المتشابه»، فكانت درجة النص هي: الواضح وضوحا بينا. فكل متحدث باللغة يستطيع أن يدرك المعنى الظاهري للكلام بمجرد معرفته للغة؛ ولذلك كان القدماء يقولون: «لا اجتهاد مع النص»، كانوا يعنون به الواضح دلالته عند الجميع وضوحا أقرب للبديهيات اللغوية. وكذلك كانوا يقولون: «النصوص عزيزة» أي إن وجودها نادر في المصحف. لكن كلمة «نص» أخذت أبعادا أوسع في عصورنا الحديثة، حيث أصبحت تشير إلى نسق لغوي كلي، سواء كبر أو صغر حجم النسق، أو اتسمت فيه الدلالات بالوضوح أو الغموض.
وبرغم أن نظريات الدرس اللغوي والبلاغي عند القدماء، في غالبها كانت تهتم بدراسة التراكيب اللغوية والبلاغية على مستوى الجملة ومستوى العبارة، ونحن في عصورنا الحديثة نتناول التراكيب في أنساق أوسع من الجملة ومن العبارة، حيث يمكننا الآن التعامل مع عمل أدبي ككل أو نتعامل مع كل أعمال أديب ما كنسق كلي واحد، رغم تباعدها ورغم انفصال الوحدات عن بعضها، فإنه يجمعها وحدة المؤلف في نسق. ورغم أن نصر أبو زيد استخدم كلمة نص بدلالتها الحديثة في علوم اللغة وفي تحليل النصوص، وساهم في اتساع نطاق الدلالة من دراسة العلامات اللغوية إلى دراسة الدلالة اللغوية في علاقتها بكل أنساق العلامات الأوسع من دلالات اللغة إلى العلامات بالمعنى «السيميوطيقي - السيميولوجي»، أي في إطار كل ما يصدره الإنسان من علامات دالة. فالطقوس لغة وعلامات، الأزياء علامات، إشارات المرور في الشارع لغة وعلامات دالة. ولكن برغم كل هذا الاتساع، فإن التعامل مع المصحف كنص بالمعنى الحديث لكلمة نص، يولد مجموعة من المشكلات الفكرية واللاهوتية.
فالنص بنية مستقلة، وتكوين قائم بذاته، له عالمه الخاص، ومفهوم النص يستدعي مفهوم «المؤلف»، الذي يقوم بعملية بناء النص، ويمكنه أن يحذف ويراجع ويضيف، ويجعل من معاني النص معنى مركزيا، فتكون هناك قصدية من المؤلف، يسعى لإيصالها عبر طريقة بناء وتركيب النص. ورغم أن المؤلف يكون في ذهنه تصور عن قارئ ما لنصه، عبر تصوره لقارئ ضمني. وعملية «التناص» التي تتداخل فيها النصوص مع بعضها الآخر، وتربطها بما هو خارجها. وللنص سياق يظهر فيه، وتتأثر به معاني النص. وبرغم كل ذلك فإن النص كيان مستقل قائم بذاته، تحركه قصدية مؤلف. والقدماء كانوا على وعي بذلك، فلم يقل أحد إن القرآن أو المصحف من تأليف الله سبحانه عز وجل، بل تحدثوا أن الله «متكلم بالقرآن»، وأن القرآن «كلام الله». رغم ذلك فقد ظل المفهوم والتصور الرابض تحت سطح الممارسات التراثية التأويلية المختلفة قائمة على تصور المصحف كنص كتاب.
التعامل مع المصحف ككتاب تتولد عنه ظاهرة قد تناولتها في مؤلف سابق لي
ناپیژندل شوی مخ