هغه څنګه جوړ شوی و: اوږده کیسه
هكذا خلقت: قصة طويلة
ژانرونه
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
ناپیژندل شوی مخ
الفصل العاشر1
الفصل الحادي عشر
خاتمة
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
ناپیژندل شوی مخ
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر1
الفصل الحادي عشر
خاتمة
هكذا خلقت
هكذا خلقت
قصة طويلة
تأليف
ناپیژندل شوی مخ
محمد حسين هيكل
تقديم
كانت أسرتي في المصيف، وكنت أتردد بين المصيف والقاهرة لبعض شئوني، وقد اعتدت في ذلك العهد أن أنزل فندق «مينا هاوس»، أستمتع من نوافذه بمنظر الهرم والصحراء، ذلك المنظر البديع في كل حين، وهو الروعة والسحر في الليالي القمرية، ويزيده سحرا ما يسري إلى نفسك معه من نسيم عذب ينسيك قيظ النهار، ويبتعث خيالك إلى تصور القرون الخالية، حين كان أجدادنا يشيدون هذه الأهرام الضخمة، لتكون مقرا للفرعون الذي أمر بتشييدها، سكنا له في حياته الآخرة.
وكنت أستيقظ بكرة الصبح فأنزل إلى حديقة الفندق أجوس خلالها، ثم أتناول طعام فطوري تحت شجرة من أشجارها الباسقة، وكثيرا ما كنت أقضي في هذه الحديقة سويعات الغروب، ولم يكن نادرا أن ألقى بعض الأصدقاء الذين يجيئون إليها من العاصمة يبتغون في رقة نسيمها وبعدها عن ضجة المدينة ما يعوضهم عن جهد نهارهم وقيظه.
وإنني يوما لجالس قبل الغروب، أتوقع أن أرى بعض هؤلاء الأصدقاء؛ إذ رأيت فتاة شابة تقبل علي متأبطة حافظة أوراقها، ثم تقف عندي وتسلم علي باسمي، ولم يدهشني أن عرفتني وأنا لا أعرفها، فكثيرا ما يقع ذلك لي ولأمثالي، وكثيرا ما يقدم إلي بعض الشبان والشابات كراسات صغيرة، ويطلبون أن أوقع باسمي على صفحة من صفحاتها، أو أن أكتب فيها عبارة ما.
ولقد خيل إلي أن هذه الفتاة تقبل علي لمثل هذا الأمر، وأنها ستخرج من حافظة أوراقها كراستها، وتطلب إلي أن أوقع باسمي عليها، أو أكتب لها عبارة تعتز بها بين صديقاتها، لكنها لم تفعل من ذلك شيئا، بل رأيتها ما لبثت حين وقفت أمامي أن استأذنت في الجلوس، فلما هممت بعد جلوسها أن أدعو الخادم ليقدم لها ما تطلب اعتذرت وشكرت وقالت إنها لا تريد شيئا، ولكنها قدمت في مهمة كلفت بها، وكل الذي ترجوني فيه ألا أسألها عن شخصيتها، ولا عمن كلفها هذه المهمة.
وبعد هنيهة فتحت حافظة أوراقها، وأخرجت منها ملفا أنيقا، وقالت: هذه يا سيدي قصة كتبتها صاحبتها، ورغبت إلي في أن أضعها بين يديك، وقد تركت لك الحرية المطلقة في شأنها، لك أن تقرأها أو تهملها، فإذا تفضلت وأضعت وقتك في قراءتها، فلك أن تلقي بها في النار، أو تحتفظ بها بين المهملات من أوراقك، ولك إن شئت أن تنشرها على الناس، فإذا كان لها من الحظ أن راقتك فنشرتها، فستكون هي إحدى قارئاتها، ولن تعرف أنت ولن يعرف غيرك عن صاحبتها شيئا. هذه يا سيدي رسالتي، وهذه هي القصة في ملفها، أدعها بين يديك، وأستأذنك في الانصراف.
تولتني الدهشة لهذه المفاجأة، فحدقت بالفتاة الشابة وقلت: قد أفهم أن تحرص صاحبة القصة على ألا أعرف أنا أو يعرف غيري من هي، وأن يدفعها هذا الحرص على أن تجعل منك رسولا يحمل إلي قصتها، لكنني لا أفهم سببا يدعوك أنت لإخفاء اسمك وكل ما يتعلق بشخصك، إلا أن تكوني أنت صاحبة القصة!
قالت: كلا يا سيدي، لست أنا صاحبة القصة، ولا كاتبتها، وسترى حين تتلوها أنها قصة سيدة في سن والدتي، إن لم تزد على ذلك.
قلت: فما يمنعك إذن من أن تذكري لي اسمك؟ إنك شابة رقيقة يلمع في عينيك الجميلتين ذكاء، قل أن تعبر عينا أنثى عن مثله، ولعلي إن سعدت بمعرفتك أن أكون أكثر سعادة بمعرفة من تمتين إليهم بصلة ممن تربطني بهم صداقة أو معرفة.
ناپیژندل شوی مخ
قالت: ذلك أدعى ألا تعرف عني شيئا، وقد استحلفتني صاحبة القصة ألا أذكر لك شيئا عن شخصي، وقطعت لها العهد والميثاق أن أكون عند رغبتها، وأحسبك يا سيدي تشجعني على أن أحفظ عهدي، وتسمح لي بالانصراف.
قالت ذلك وهمت بالوقوف، وأيقنت أن ما أبذل من جهد لمعرفة اسمها أو شخصيتها سيذهب سدى، فوقفت وودعتها قائلا: لعلي أراك من بعد.
وأجابت: علم ذلك عند ربي. وانفلتت في رشاقة، وسرعان ما اختفت عن ناظري، تاركة لي هذا الملف الأنيق الذي أخرجته من حافظة أوراقها، وكان الملف مربوطا بشريط من الحرير الأزرق زرقة السماء، فككت رباطه، وأجلت بصري في صحف القصة الأولى، ثم إنني تخطيت هذه الصحف إلى فصل يتوسط القصة، فإذا هو يثير طلعتي، بل يثير دهشتي، وتكاد تهتز لقراءته أعصابي، عند ذلك آثرت أن أصعد إلى غرفتي، وأن أبدأ قراءة القصة من أولها، وفعلت، وإنني لأتابع القراءة إذ دق الخادم باب الغرفة، وقال: ألا ينزل سيدي ليتناول عشاءه، فقد جاوزت الساعة التاسعة؟!
وأجبته: بل أوثر الليلة أن أتناول طعاما خفيفا، فأحضر لي ها هنا خبزا وجبنا، وأكثر من الفاكهة.
وخرج الخادم يعد ما طلبت، وعدت أنا أتابع قراءة القصة، وكنت كلما انتقلت فيها من فصل إلى فصل تولتني الدهشة، فصاحبتها تروي حكاية حياتها في بساطة ويسر، يكاد يخيل إليك معهما أنها حياة عادية لأية امرأة تعرفها، ولكنك تقف بعد قليل دهشا تتساءل: ما هذه المرأة؟ ومن هي؟ إنها فريدة في طرازها، بل هي نسيج وحدها، إنها تحب الحياة، ولا تريد مع ذلك أن تسلم للحياة أمرها، بل تريد أن تصوغ الحياة كما تشاء هي، فإذا صدمها الواقع لم تذعن لصدمته، بل حاولت أن تواجهه في كبرياء المعتز بنفسه، المؤمن بقوته، لتبلغ آخر الأمر إلى الإسلام للحياة ومقاديرها، وللطبيعة وحكمها.
والعجيب في أمر هذه البطلة أنها لم تقف إزاء معركة من المعارك الكثيرة التي خاضتها لتحلل نفسيتها ولتجاهد كي تصلح ما يكاد الدهر يفسده، بل هي تنتقل في قصصها من معركة إلى معركة، وقد كان في مقدورها أن تجد في حمى السلام ملجأ يجنبها هذا النضال، ويظلها بوارف من الطمأنينة بل السعادة، لكنها لم تكن تعرف للطمأنينة معنى، ولم تكن تفهم السعادة إلا أن تكون هي المتحكمة في أقدارها وأقدار غيرها، فلما طال بها أمد النضال، وشعرت أنها أصبحت كالكرة تتقاذفها الأهواء التي ابتدعتها هي من صنع يدها، لجأت إلى الحصن الذي يلجأ إليه كل من عبثت به أنواء الحياة، لكنها ما لبثت أن اضطرت للخروج من هذا الحصن لتذعن آخر الأمر لحكم القضاء، ولسلطان الطبيعة.
لم أنم تلك الليلة حتى فرغت من قراءة القصة، فلما أصبحت فكرت: من تكون بطلتها؟ ومن تكون الفتاة التي حملتها إلي؟ ولماذا اختارتني صاحبتها لتدفعها إلي، وتترك لي مطلق الرأي في مصيرها؟ وماذا عساي أن أفعل بها؟ أألقيها في سلة المهملات، أم أدفعها طعاما للنار؟ كلا، فهي تستحق غير هذا المصير لا ريب، وإن أنا فكرت في نشرها، فأي عنوان أختار لها؟ لقد تركتها صاحبتها بغير عنوان، أفأجعل عنوانها: قصة امرأة؟ لكن قصص النساء كثيرة، وليست هذه البطلة في غمار هاتيك النسوة اللاتي أحببن أو أبغضن، كما تحب كل امرأة وتبغض، بل إن لحبها وبغضها لطابعا خاصا بها، لا يتسق هذا العنوان معه.
وما لي لا أتخذ عنوانها من طريقة تحريرها؟! فلم يرد فيها اسم بطلتها، أو اسم شخص من أشخاصها برغم وضوح شخصياتهم جميعا وبروزها، ما لي لا أجعل عنوانها: قصة بلا أسماء؟ ثم ما لي لا أجعل عنوانها صفة اختارتها البطلة لنفسها في آخر قصتها: المذنبة التائبة، أو صفة أخرى اختارها لها زوجها الأول: غيرة وغرور؟ وترويت في اختيار العنوان طويلا، ثم ألهمتني شخصية البطلة بشذوذها وذكائها وجاذبيتها، وبغرورها وغيرتها، كما ألهمتني الخاتمة التي أضافتها ذيلا لروايتها، فجعلت عنوانها: «هكذا خلقت»، مقتنعا بأن هذا العنوان يصف البطلة وطريقة تفكيرها أصدق الوصف.
ولا أريد أن أحكم لهذه القصة أو عليها، وحسبي أن أذكر أن حديث البطلة عن نفسها جعل القصة أكثر واقعية في تصوير عواطفها وإحساسها، وتطور هذه العواطف والمشاعر في دخيلة وجودها، وهي في غمرة المضطرب الذي تعاني العيش فيه.
والواقع أن ما صورته هذه القصة لا يزيد على أنه أثر من آثار التطور الاجتماعي الذي شهدته مصر، ولا تزال تشهده، وإذا كان في البطلة شذوذ غير مألوف فهو يصور واقعا قل أن يجتمع كله في نفس واحدة في فترة واحدة من الزمن، فهو يرسم - لا ريب - صورة من صور تطورنا المتصل في هذا الدور الحاضر من أدوار المجتمع المصري، وبعض البلاد الشرقية معرضة لأن تمر بهذا الدور مثلنا!
ناپیژندل شوی مخ
ولعل من القراء من شهد مناظر في الحياة تشبه ما صورته هذه القصة، وإن اتصلت هذه المناظر بأكثر من شخص واحد في الطبقة المصرية المستنيرة، في هذا الزمن الذي نعيش فيه، وتلك ألوان من الحياة لم تكن تمر بخاطر جيلنا أو الجيل الذي سبقه.
ومن الخير تصوير الجوانب المختلفة من أطوارنا في هذا الوطن إذا أردنا أن نواجه التطور الحاضر لفائدة المجتمع، وحرصنا على ألا تسوء آثاره في بعض الطبقات زمنا طويلا، ولن يستطيع كاتب فرد أن ينهض بهذا العبء الجسيم، سواء اختار القصص أو الرسالة أو البحث العلمي أو الفلسفي، فحياة المجتمع تزداد تعقيدا كلما ازداد المجتمع ارتقاء، وقد أصبح التخصص ضرورة في الكتابة كما أنه ضرورة في الطب أو الهندسة أو غيرهما من المعارف والأعمال الإنسانية. وغاية ما أرجو أن تتضافر جهود الكتاب على اختلاف نزعاتهم ليوجه هذا التضافر مجتمعنا الوجهة الصحيحة في تطوره، وليكفل له سرعة السير في معارج الرقي إلى أسمى درجات الحضارة.
هدانا الله جميعا سواء السبيل.
محمد حسين هيكل
الفصل الأول
ما أكبر الفرق بين القاهرة اليوم، في هذه العشرة السادسة من القرن العشرين، وبينها أيام طفولتي وصباي في العشرة الأولى من القرن نفسه! وما أكبر الفرق بين الحياة في هذه المدينة العاصمة اليوم، والحياة فيها إذ ذاك!
أنا اليوم أسكن شارع الهرم على مقربة من نهايته عند فندق «مينا هاوس»، وتقلني السيارة إلى قلب المدينة في عشر دقائق أو نحوها، وذلك ما لم يكن يحلم به أحد في أخريات القرن الماضي وأوائل هذا القرن، لم يكن أحد يومئذ يسكن شارع الهرم، بل كان النيل يفصل بين «القاهرة» وما على شاطئه المقابل لها من مزارع ممتدة إلى مدى النظر، ولم تكن السيارات يومئذ وسيلة المواصلات، بل لم تكن موجودة بالنسبة لسواد الناس، ولست أذكر متى جاءت أول سيارة إلى مصر! لكن السيارات بقيت بعض مظاهر الترف إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ أي إلى سنة 1920، فكان طبيعيا أن تظل رقعة المدينة ضيقة مع وسائل مواصلاتها، وأسرعها عربات الخيل - الحناطير - والحمير، أما الترام الذي بدأ يسير في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الماضي، فلم تكن شبكته قد امتدت إلى ما وراء حدود المدينة كما صورتها.
ثم إني لأذكر يوما من سنة 1909 ذهبت فيه مع أبي إلى ضاحية «مصر الجديدة»، وكانت في بدء إنشائها، فلم يكن بها غير عدد قليل من المنازل، على مقربة من فندق «هليوبوليس بالاس»، ويومئذ سمعت أبي يبدي عجبه: كيف تغامر الشركة البلجيكية القائمة بهذا المشروع باختيار تلك البقعة من الصحراء لبناء ضاحية فيها، لكن المصريين كانوا يومئذ يؤمنون بعبقرية الأجانب، حتى ليكادون يضعونهم في مصاف الملائكة أو في مصاف الشياطين، ولذلك كانوا يحتاطون في الحكم على تصرفاتهم لاقتناعهم بأن هؤلاء الأجانب يدركون ما لا ندرك.
ولقد آمنت يومئذ بما أبداه أبي من عجب؛ لأنه أبي، ولأنني رأيت الترام الأبيض الذي يصل «القاهرة» ب «مصر الجديدة» ينساب بعد العباسية في صحراء خالية لا حياة فيها، فلا ترى العين على جانبيه إلا الرمال الممتدة لتلامس السماء عند الأفق، وكانت العباسية نهاية القاهرة من هذا الجانب، وكانت أشبه بضاحية يقطنها العسكريون الذين ألفوها في أثناء خدمتهم في الجيش؛ لأنها تجاور ثكناته، فلما انتهت خدمتهم فيه أقاموا مساكنهم هناك، على أرض رخيصة الثمن؛ لبعدها عن المدينة وعن مواصلاتها.
أما سرة المدينة فكان ميدان «العتبة الخضراء»، منه كانت خطوط الترام تبدأ سيرها، وفيه كانت تقوم المحكمة المختلطة ميدان النشاط القضائي بين الأجانب والمصريين في العاصمة وما حولها، وعلى مقربة منه كانت تقوم حديقة الأزبكية، التي كانت قبل مائة عام بركة، ثم انقلبت حديقة باسقة الشجر محاطة بأسوارها المنيعة. ومن ميدان العتبة الخضراء يمتد شارع عابدين المعروف إلى قصر الحكم عن شمالك، وتقوم متاجر فخمة عن يمينك ، وينحدر شارع الموسكي ذو الشهرة العالمية؛ لأنه كان شريان النشاط التجاري بالمدينة.
ناپیژندل شوی مخ
وكان ميدان «العتبة الخضراء» والشوارع المتفرعة منه يفصل بين الأحياء المصرية والأحياء الأجنبية في القاهرة، فما امتد منه غربا إلى النيل كان مستقر الأجانب، وما امتد شرقا متجها إلى جبل المقطم كان مستقر المصريين والشرقيين، وميدان نشاطهم؛ لذلك كان شارع «الموسكي» تختلط فيه العناصر الثلاثة: الشرقيون، والأجانب، والمصريون، يزداد الأجانب في جانبه القريب من العتبة، والمصريون في جانبه المتصل بالسكة الجديدة المؤدية إلى أحياء سيدنا الحسين والأزهر وما وراءها إلى الجبل من أحياء وطنية صميمة، وكان سكان القاهرة يومئذ لا يبلغ عددهم الثلث، بل الربع من سكانها اليوم.
كان طبيعيا - وتلك حال القاهرة في العشرة الأولى من هذا القرن - ألا ترى فيها عمارات شاهقة كالصروح التي تراها اليوم، وأن تتألف منازلها من طابقين أو ثلاثة على الأكثر، وكانت منازل الذوات وأهل اليسار أشبه بالحصون، ترتفع جدرانها الخارجية لتستر كل ما فيها وكل من فيها، ولتستر السيدات المخدرات صاحبات العصمة بنوع خاص، وبين هذه الجدران كان المنزل يتألف من «سلاملك» متصل بالباب الخارجي خاص بالرجال، ومن «حرملك» منفصل عنه هو مستقر السيدات، ويغلب أن تقوم أمام «الحرملك» حديقة صغيرة تتنسم السيدات فيها الهواء، بعيدات عن أعين الرجال.
وكان والدي من المصريين ذوي الجاه واليسار، فكان البيت الذي ولدت به ونشأت فيه من هذا الطراز الذي وصفت، وكان يقع على الميدان الذي يقوم فيه تمثال «لاظوغلي»، وكان سلاملكه يقع إلى يمين الداخل من بوابته الكبيرة، مكونا من غرفة واسعة للجلوس، ومن غرفة أصغر منها، يدخل الإنسان إليهما من بهو فسيح أمامهما، ويرتفع الكل عن الأرض بضع درجات، وكان يفصل بين «السلاملك» و«الحرملك» جدار يزيد ارتفاعه على قامة الرجل، ومن ورائه حديقة غرس فيها الجازون، وقامت على جوانبها أحواض من أشجار الورد والأزهار المختلفة، كما قامت في أحد أركانها «جبلاية» صغيرة تجري فيها المياه.
كنت إبان طفولتي أقضي معظم وقتي في هذه الحديقة ألعب مع اثنتين من بنات الجواري اللاتي يعملن في خدمة المنزل، وكانت والدتي إذا أرادت دعوتي إلى داخل الدار بعثت إلي بإحدى هاتين الطفلتين أو بجارية من الجواري، ولم تكن تناديني مخافة أن يسمع صوتها خادم من الرجال، أو أحد معارف أبي الجالسين معه في «السلاملك»، فصوت المرأة كان يومئذ عورة لا يجوز أن تداعب آذان الرجال.
وكانت والدتي من قريبات أبي، وكان أهلها من الأعيان الذين يرون تعليم البنت القراءة والكتابة أمرا نكرا، ولكنها كانت بارعة في إدارة المنزل، تحذق كل شئونه، وكانت لذلك مدبرة في غير شح، لا ترمي قرشا في غير موضعه، ولا تضن على خادم، رجلا كان أو امرأة، بما يحتاج إليه برغم أنها لم تكن ترى الخدم الرجال أو تخاطبهم.
وكانت والدتي تستقبل السيدات من صديقاتها مساء الثلاثاء من كل أسبوع، وفي هذا اليوم كان الخدم الرجال يتمتعون بإجازة من بعد الظهر، وكان والدي يغادر المنزل فلا يبقى به رجل إلا بوابنا العجوز المتهدم ليستقبل السيدات عند دخولهن من البوابة وخروجهن منها، وكنت أغتبط بمقدم يوم الثلاثاء؛ لأنه كان أشبه بأيام العيد، ولأن بعض المغنيات والراقصات من معارف والدتي كن يحضرن فيحيين هذا الاجتماع النسائي، وكنت قلما أحضر هذه الاجتماعات إلى نهايتها، فقد كانت والدتي تبعث بي إلى الحديقة ألعب فيها، أو إلى صديقة لي من الأطفال كان منزل أهلها قريبا منا؛ لأن هذه الاجتماعات النسائية كان يدور فيها من الحديث ما لا يجوز أن يسمعه الأطفال، ذلك ما تيقنته من بعد حين كبرت، وحين عرفت ما تتبادله النساء من أحاديث تافهة، أساسها الغيبة التي لا تخلو من قصص يألفها النساء، ويرين عيبا أن يسمعها الأطفال، أو يسمعها الفتيان.
وكنت أغتبط بالذهاب إلى منزل صديقتي الصغيرة التي تجاورنا؛ لأن والدها كان رجلا رقيقا غاية الرقة، وكان يحبها أعظم الحب، وكان يحبني لأنني صديقتها، وكان ينتظرني يوم الثلاثاء وقد أعد لي هدية من اللعب التي يغتبط بها أمثالي، فكنت لتوقعي الهدية أسارع إلى تلبية والدتي، والذهاب مع خادم من الجواري أقضي مع صديقتي ووالدها سويعات هنيئة سعيدة.
ولما بلغت السابعة بعث بي والدي إلى المدرسة السنية، ولم يكن بينها وبين دارنا ما يدعو إلى ركوب عربتنا؛ لذلك كنت أذهب مع البواب العجوز كل صباح، وأعود معه كل مساء، ومعي كتبي وكراساتي، وكان معلم القرآن والديانة والخط العربي يشغل معظم حصص الدروس معنا، فكنا نراه ثلاث ساعات كل يوم على الأقل، وكان شيخا رقيقا شديد اللطف بنا، يعاملنا معاملة الأب لبناته، فكنا نحبه ونسر بمقدمه، وكنا لذلك نحفظ الدروس التي يلقيها علينا ونحن مغتبطات أشد الاغتباط، ولهذا حفظت من القرآن جزء «عم» في السنة الأولى، وجزء «تبارك» في السنة الثانية، وكنت أشعر بالمسرة حين أتلو منهما أمام والدي ما يزيدهما عطفا علي، واغتباطا بنباهتي، وازداد عطفهما علي وضوحا حين رأياني منذ تخطيت الثامنة من سني لا أترك فرضا إلا صليته لوقته، فكنت أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة، وأصلي الظهر في مصلى المدرسة، وأصلي بقية الفروض لأوقاتها بالمنزل. ولم يكن العطف علي هو وحده مظهر تقدير أبي لهذا الصلاح وهذه التقوى، فقد جاء يوما إلى المدرسة وطلبني، وطلب الشيخ معلم القرآن والديانة والخط، وشكره أمام ناظرة المدرسة - وكانت إنجليزية - على عنايته بتقويم أخلاق التلميذات عن طريق الدين وفرائضه.
ومنذ بدأت السنة الدراسية الثانية بدأنا نتعلم اللغة الإنجليزية، وفي السنة الثالثة كنا ندرس التاريخ والجغرافيا، تاريخ مصر وجغرافيتها باللغة الإنجليزية، ولذلك أسرعنا إلى التقدم فيها، وأمكننا أن نتكلم بها. •••
كان لأبي على حدود مديريتي القليوبية والشرقية عزبة كنا نقضي بها جانبا من الصيف في كل عام، وكانت والدتي تغتبط أشد الاغتباط بهذه الفترة التي نقضيها في الريف، فقد كان حول منزلنا حديقة فسيحة فيها أزهار وفواكه، وكان كثيرون من أهلنا الأعيان يترددون علينا هناك، فيجدون من والدي مودة ولطفا، وتجد والدتي في أحاديث قريباتنا الريفيات عن الزراعة وأحوالها لونا من الحياة غير الذي ألفته في العاصمة، فتتسلى بهاتيك القريبات الودودات وبقصصهن، وكنت أنا أجد في الحديقة وفي الحقول القريبة ما يبعث إلى نفسي المسرة، فلما بلغت الثالثة عشرة من عمري ذكرت لي والدتي أن التقاليد تمنع خروجي نهارا إلى ما وراء أسوار الحديقة، وتمنع نزولي بها ساعة وجود العمال من الرجال فيها، عند ذلك شعرت بأنني بدأت أدخل ميدانا جديدا من ميادين الحياة، وأنني موشكة متى عدت إلى القاهرة أن ألبس ملابس النساء: الحبرة والبرقع، وألا أخرج إلى الطريق وحدي.
ناپیژندل شوی مخ
كانت عمتي تكثر التردد علينا في أثناء مقامنا بالعزبة، وكانت سيدة من أعيان الريف المحترمات في وسطها، المحافظات على كرامة الأسرة ومكانتها، المتصدقات على الفقراء والمساكين من أهل قريتها، وكانت تكبر والدي عدة سنوات، وكانت ورعة تقية، قوية الإيمان بالله ورسوله، شديدة المحافظة على فروض دينها، تصلي الخمس فرضا وسنة، وتصوم ثلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان. وكان والدي يحبها ويحترمها، وكانت تغدق علي من عطفها وحبها ما كنت أغتبط به، وكان حبها الشديد إياي يرجع إلى أنني كنت - برغم أنني تلميذة بالمدارس - شديدة المحافظة على فروض ديني، وكنت أتلو عليها من سور القرآن ما يثلج صدرها، سواء أفهمته أم لم تفهمه.
وكانت عمتي تقضي معنا أحيانا أسابيع متعاقبة، وكان لها غرام بأن تقص علينا صورا من ماضي الحياة في الريف، هذا الماضي الذي تطور في نظرها تطورا لا تطمئن إليه نفسها، وكانت تقص علي من تلك الصور ما يثير عجبي؛ كانت تذكر أن أسرتنا التي استأثرت بعمدية البلد ومشيختها، ولا تزال تستأثر بهما، كانت تعد بالعشرات وتقيم في منازل عدة، وأن الفلاحين الذين كانوا يعملون في أراضينا كانوا يجتمعون كل مساء بعد صلاة المغرب في صحن الدار الكبيرة يتناولون طعام العشاء الذي يطهى لعشراتهم في هذه الدار، ثم لا يصد عن الطعام فقير وإن لم يكن يشتغل معهم في المزارع، وأنهم جميعا كانوا ينظرون إلى جدي لأبي على أنه والدهم جميعا، فلا يتزوج أحدهم إلا بعد مشورته، ولا يختلف اثنان إلا احتكما إليه وقبلا حكمه، ولا تطلق امرأة من زوجها إلا بعد أن يقتنع بأن الصلح بين الزوجين غير مستطاع.
وكانت تذكر أن هذه الأبوة لم تكن مقصورة على أبناء الأسرة والعمال في مزارعنا، بل كان أهل القرية جميعا ينزلون على حكم جدي اقتناعا منهم بعدالته، وبأنه رجل صالح يخاف الله ولا يرضى بما يغضبه، وأنه إلى ذلك رجل خير يعين البائس والمحتاج، ويأنف أن يتدخل في شئون البلد غريب أو أن يستبد بأهله حاكم ظالم.
وإن نسيت الكثير مما قصت علي إذ ذاك فلن أنسى تصويرها للقرية المصرية في النصف الثاني من القرن الماضي، فهذه الصورة لا تزال عالقة بذاكرتي، وهي تجعلني أرى أهل تلك القرية يعيشون عيش القبائل في البادية برغم أنهم أهل زراعة، ولم يكن هذا النوع من العيش عجيبا في ذلك العهد؛ فقد كانت كل قرية تعيش في عزلة عن غيرها من سائر القرى؛ لأن المواصلات السريعة لم تكن قد ابتكرت، وكان أهلها لا يكادون يسمعون شيئا عن حياة المدن، إلا ما اتصل منها بعقائدهم وإيمانهم الراسخ بالمشايخ والأسياد، وتطلعهم لزيارة هؤلاء الأسياد للتبرك بهم، ولم يكن ذلك مستطاعا لغير ذوي اليسار ومن يلوذون بهم، أما سائر أهل القرية فكانوا يمضون حياتهم كادحين في غير ملل، مؤمنين بأن الله قسم الحظوظ، وأنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا عليه توكلنا، وعليه فليتوكل المؤمنون.
كنت أطيل الاستماع لعمتي، وأطرب لحديثها، وكنت أشد اغتباطا بما تقع عليه عيني من مناظر هذا الريف الممتعة حين أتردد عليه غير مرة خلال السنة، ولم يكن جمال الريف هو وحده الذي يأخذ بناظري، بل كان لي من الطمأنينة إلى أهله حظ عظيم، وكيف لا أطمئن إليهم وأنا أرى من مظاهر ورعهم وتقواهم ما يثير إعجابي؟! لقد كنت أخرج مع والدي أحيانا بعد الغروب فأرى أحدهم يقوم لصلاة العشاء في مصلى ساذج مفروش بالحلفاء على حافة الترعة بعيدا عن الأعين، فيهتز لذلك قلبي، وتتأثر بهذا المنظر كل مشاعري، فهذا الرجل المنفرد وسط لا نهايات المزارع في هذه الساعة من المساء يدعو ربه ويستغفره، كان مثال الورع في نظري، ولم يدر بخلدي في تلك الأيام من طفولتي وبدء صباي ما عساه يدور برأسه في أثناء صلاته أو بعدها من أفكار قد لا يرضى الله عنها، بل كنت أومن بأنه في وحدته قريب من ربه، وأن حرصه على فروض دينه خير شاهد على نقاء قلبه، وصفاء سريرته.
وعدنا إلى القاهرة في أخريات الصيف من تلك السنة، وأنا موشكة أن أدخل ميدانا جديدا من ميادين الحياة، وأن ألبس ملابس النساء: الحبرة، والبرقع، وإني لأذكر اليوم في ابتسامة لا تخلو من مرارة ما كان يدور برأسي الطفل إذ ذاك من غبطة لهذا الانتقال من حرية الطفولة إلى قيود المرأة، هذه الغبطة التي لا تفسير لها إلا التطلع إلى المستقبل الذي كتب على جنسنا، والذي لا نعرف غيره، ولا مفر لنا منه، والذي تنتظره كل فتاة، أو على الأقل كانت تنتظره فتاة ذلك العهد، وترى فيه أحلام السعادة، ويرى أهلها فيه أحلام الطمأنينة إلى الحياة، أقصد الزواج، أواه لو علمت كل فتاة، وآه لو علم أهلها ما يخبئ الغيب!
لا أريد أن أسبق الحوادث، أو أعبر عما شعرت به في لحظة غير اللحظة التي أكتب عنها، لقد كنت يوم دخلنا القاهرة في ذلك العام سعيدة تفيض عني المسرة، لقد كنت أحبو من الطفولة إلى الصبا في صحة ونضارة، وكانت تحيط بي كل أسباب النعمة على ما كان يتصورها ذلك الجيل، كان أبواي يسبقاني إلى رغباتي، وكنت أجد من حنانهما وعطفهما وبرهما ما يسبغ على الحياة خير ألوانها، وما يجعلني أشعر كأنني في جنة الخلد، وكان تقدير أساتذتي في المدرسة، وتقدمي فيها يزيدني نعيما وغبطة.
وكان الأمل الباسم الذي يفتح أجنحته الأثيرية للشباب الموشك أن يتفتح كما تتفتح الأزهار ينشر أمام خيالي الساذج ألوانا من الهناءة لم أعرف لها في الحقيقة مثالا، وكان مرجع رضاي يومئذ عن نفسي إلى ما عرفت به بين زميلاتي في المدرسة من حسن الخلق لشدة محافظتي على صلواتي، حتى كان بعض معلماتي يسمينني «رضوان الجنة» نسبة إلى حارس جنة الخلد؛ وذلك لشدة عنايتي بمصلى المدرسة.
وبعد أسابيع من استقرارنا في العاصمة فكرت والدتي في أن تفصل لي حبرة ألبسها وألبس البرقع معها، ولهذه المناسبة جعلت أذهب معها إلى المحال التجارية لتختار القماش المناسب، وإلى الخياطة لأفصل الحبرة، ويومئذ أحسست شعورا جديدا يخالط نفسي، شعور الأنوثة التي تسري في عروقي وأعصابي كما يسري ماء الحياة في الشجر فيزيده رواء، ويزيد خضرة أغصانه بهجة، وأكمام أزهاره تفتحا.
ولقد كنت إذ ذاك أعنى بملاحظة السيدات المبرقعات وما يسبغه عليهن الحجاب من جمال يزيد عيونهن النجل روعة وبراعة، وكنت نحيفة القوام معتدلة، وكانت والدتي لا تفتأ تلفتني إلى هاتيك السيدات الممتلئات يتحدث جسمهن البض عن معاني النعمة، وتكاد تؤنبني لنحافتي، بل لقد كانت تذكر لي أن من هاتيك السيدات من تشعر بنحافة جانب من جسمها، فتطالب «الخياطة» بأن تضع تحت الحبرة أسلاكا، أو تحشوها فتستر هذه النحافة، مع ذلك بدأت أشعر أن في عيني من الجاذبية ما يغنيني عن هذا الجمال المصطنع، وإن لم أجرؤ على أن أذكر شيئا من ذلك لوالدتي.
ناپیژندل شوی مخ
ولبست حبرتي وبرقعي، وانتعلت حذاء عالي الكعب، وأخذت أخرج مع والدتي إلى الأسواق، وفي بعض زياراتها لصديقاتها فإذا هذا الشعور بالأنوثة يزداد في نفسي، وإذا حيويته تسرع إلى النماء أضعاف نموها قبل أن ألبس الحبرة والبرقع، ولعل ما شعرت به من اختلاف نظرة الرجال إلي في أثناء سيري مع والدتي عما كانت عليه قبل هذا الحجاب قد كان سببا في هذا التزايد السريع في نمو شعوري.
وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي، فكنت أقضي أمام المرآة زمنا أصلح في أثنائه من شأني، وألاحظ في أثنائه أدق التفاصيل في مظهري، فكنت أعنى حتى بالشعرات التي تخرج من تحت رأس الملاية ونظامها عنايتي بموضع البرقع من أنفي حتى يزيد في جاذبية نظراتي، ثم أعنى بانسدال الملاية على جسمي حتى تنم في دقة عن ميول قوامي وبارع اعتداله.
ولم يزعجني حديث والدتي عن نحافتي، فقد كنت أقرأ بعض المجلات والقصص الإنجليزية، فأرى فيها تصويرا للسيدات والأوانس النحيفات يشهد بجمالهن ويثير الإعجاب بهن، وكنت أقرأ مثل ذلك فيما تترجمه هذه المجلات عن الأدب الفرنسي. ليست النحافة إذن عيبا لذاتها، وإن أثار الجسم الناعم البض من المعاني المألوفة في مصر ما لم يكن يدور إذ ذاك بخاطري، ثم إنني رأيت في هذه المجلات والقصص حديثا عن جاذبية المرأة، وأنها ترجع إلى رقتها ودماثة طبعها وحسن حديثها، فأغراني ذلك بالعناية بهذه النواحي من أنوثتي أكثر من عنايتي بما أقاوم به نحافتي.
على أن شيئا من ذلك كله لم يصرفني عن صلواتي احتفاظا بمكانتي بين زميلاتي وأساتذتي في المدرسة، وإرضاء لشعور داخلي كان يتردد في أعماق وجداني بأن الزينة لا تخالف التقوى، وكم اغتبطت حين سمعت الشيخ الذي يتلو القرآن كل صباح جالسا في غرفة الانتظار بالطابق الأسفل من منزلنا يرتل:
خذوا زينتكم عند كل مسجد ، فقد ثبتت هذه الآية شعوري الداخلي، واطمأن لسماعها وجداني، فازددت عناية بزينتي كما ازددت حرصا على أداء فروض الله.
وازددت على الزمن شعورا بأن القراءة تتم الزينة، صحيح أنها ليست الزينة المادية التي تلفت النظر إلى أشخاصنا حين مسيرنا في الأسواق ودخولنا على صديقات والدتي، بل هي الزينة المعنوية التي تزيد نظراتنا ذكاء وجاذبيتنا فعلا في النفوس، لذلك أكببت على الكتب والمجلات التي كنت أستعيرها من مكتبة المدرسة، أو أشتريها من المكتبات، وشعرت لهذا الإكباب بلذة قوية كانت تأخذني عن نفسي، وتصرفني عن كل ما سواها، وإن جلبت علي في كثير من الأحيان لوم والدتي خوفا على عيني، وإشفاقا منها أن تصرفني القراءة عن الاضطلاع بواجبات الفتاة والمرأة في العناية بأمور المنزل وحسن تدبيره.
وخشي والدي حين رأى إكبابي على قراءة الكتب والمجلات الإنجليزية أن يضر ذلك بلغتي العربية وثقافتي الدينية، فاختار لي مدرسا شيخا كانت له به ثقة، وكثيرا ما رأيته يصحبه، بل لقد حضر إلى العزبة في أثناء مقامنا بها في الصيف مما دلني على أن له على أبي دالة تزيد في ثقته به.
وكان هذا الشيخ على حظ غير قليل من الذكاء، درس أول أمره في الأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم فجود اللغة العربية بها، وجعل همه أن يطلع على ما يظهر من كتب مؤلفة أو مترجمة إلى العربية ليجاري العصر ولا يقبع في زوايا الماضي على حد تعبيره، فلما بدأ تدريسه لي لم يلبث حين وقف على مبلغ علمي أن اختار لي كتاب «عيسى بن هشام» للمويلحي، وكتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين، وكتاب «التربية» الذي ترجمه محمد السباعي عن هربرت سبنسر.
وقرأت جانبا من هذه الكتب الثلاثة معه، وسمعت إليه يفسر ما رآه غامضا علي من ألفاظها وعباراتها، فأغراني ذلك بالمضي في قراءتها في أثناء وحدتي، وتفتحت لذلك أمامي آفاق جديدة يقصر دونها الكثيرات من أمثالي، بل يقصر دونها كثيرون من رجال ذلك الوقت ونسائه، وقد كنت أقف وجلة أحيانا أمام ما أقرأ؛ لأنه يخالف مألوف الحياة في مصر إذ ذاك، وهو مع ذلك مكتوب بلغتنا العربية، فيجب أن نفكر فيه، وألا نعتبر قراءته مجرد تسلية لقتل الوقت، ويجب أن ننتهي من هذا التفكير إلى رأي، وكنت أسأل أستاذي الشيخ أحيانا فيما يستوقفني، فلا يزيد على أن يبتسم ثم يقول: الزمن يا فتاتي كفيل بإنضاج رأيك في كل ما تقرئين.
ولقد أخذني العجب يوما لحوار جرى بين والدي وأستاذي حسبت حين سمعته أن الشيخ يبالغ فيما يسميه «عصريته»، فقد ذكر والدي أن شابا من أبناء أحد أصدقائه تزوج من أجنبية يهودية، فكان جواب الشيخ: وماذا في ذاك؟ ثم تطور الحوار إلى جدل ديني كان الشيخ فيه دون والدي تعصبا لعقيدته، فقد رأى والدي أن زواج اليهودية من المسلم يتيح لها الفرصة لتقف من زوجها أو من أهله أو من خلطائه على حقيقة الإسلام، فإذا هي لم تعتنقه من بعد كانت مكابرة، وكان مصيرها إلى الجحيم، أما الشيخ فرأى أنها إذا لم تقتنع بحجة زوجها أو أهله أو خلطائه وعملت صالحا فلا جناح عليها أن تقيم على دينها، وأن يغفر الله لها، ويدخلها الجنة.
ناپیژندل شوی مخ
كانت تدور أحاديث من هذا القبيل بين الرجلين، وكان الجدال بينهما يبلغ الحدة، ثم لا يغير ذلك من ثقة والدي بالشيخ، واطمئنانه لحسن إيمانه، فإذا نودي للصلاة من مئذنة المسجد القريب من دارنا، وقام الشيخ للصلاة، ائتم به والدي وقضى فرضه وراءه.
كنت أسمع وأرى ما يحدث من مثل ذلك فلا أقف طويلا عنده، ومن كان في مثل سني يومذاك لا يقف طويلا عند شيء، بل تمر أمامه الأحداث والآراء، فيلم بها إلمامات سريعة تبقيها في ذاكرته لتنضم على الأيام لأشباهها، ثم تكون موضع تفكير وعبرة من بعد، حين نصبح قادرين على أن نبدي حكما ذاتيا على ما نرى ونسمع، وكذلك بقيت ذاكرتي تختزن ما استطاعت اختزانه، حتى إذا آن الأوان تفاعل ذلك كله في نفسي، وكون وجودي الذاتي وكياني المعنوي.
تعاقبت الأيام والأسابيع والشهور، وانقضت السنة الدراسية، واحتملنا قيظ العاصمة أسابيع من أوائل الصيف، ثم ذهبنا إلى العزبة، وبدأ أقاربنا يزوروننا، وأقبلت عمتي وعلى رأسها طرحة بيضاء على خلاف ما ألفت من لباس رأسها في الأعوام الماضية، إذ كانت طرحتها سوداء؛ ذلك لأنها سافرت إلى الحجاز وأدت فريضة الحج، واستبقت الطرحة البيضاء من لباس إحرامها، ولم يكن حديثها ذلك الصيف عن ماضي الحياة في قريتنا العزيزة، بل كان كله عن الحج والحجاز والكعبة، ومسجد المدينة، والمقصورة النبوية، وكانت تقص ذلك في تفصيل يشهد بطمأنينة نفسها إليه، واستراحة قلبها له، وكنت أشعر في بعض ما تقصه بأنه أدنى إلى الأساطير، لكنها كانت ترويه في حرارة إيمان تنقل صداه إلى قلب والدتي، فلا تفتأ تكرر: يا بخت من زار النبي.
ولو أنني استطعت يومئذ أن أنقل كل ما روته عمتي عن حجها لتألف منه كتاب شائق، فقد كان حديثها عن هذا الحج يتصل يوما بعد يوم، وكأنها شهرزاد في ألف ليلة وليلة، لكنني كنت في شغل بقراءة مجلاتي وقصصي الإنجليزية، وبمراجعة عيسى بن هشام وتحرير المرأة والتربية؛ لأن أستاذي الشيخ أخبرني قبيل سفرنا أنه سيزورنا بالعزبة بعد شهر من مقامنا، ويسألني عما قرأته.
وجاء الشيخ إلى العزبة في الشهر الأخير من أشهر الصيف، وكنت في فترة هذه الإجازة المدرسية قد أسرعت في النمو وبدأ تكويني النسوي برغم نحافتي، وشعرت في نظراتي بجاذبية قوية كنت أغتبط بها حين أقف أمام المرآة أصلح من هندامي، ترى أكان هذا هو السبب في أن والدي لم يكن يذرني وحدي مع الشيخ ساعة تدريسه لي؟! فقد لاحظت أنه كان يحضر دروسي جميعا على غير عادته من قبل، وما أحسبه خالجته شبهة في خلوتي مع الشيخ ساعة الدرس، أو خالطت نفسه ريبة من أمره، فقد كانت ثقته بورعه فوق كل شبهة، وإنما أحسبه خشي قالة الناس، وقالة النساء أكثر من قالة الرجال؛ فقد علمتني السنون من بعد أن الناس في مصر، من أهل المدن كانوا أو من أهل الريف، يسرعون إلى الريبة في غير موضع الريبة، ويتناقلون من الأحاديث الكاذبة في أمر غيرهم ما يسرعون إلى تصديقه. هذا في اعتقادي هو ما دعا والدي لمصاحبة الشيخ ساعات تدريسه لي، وبخاصة بعد أن رأى منذ كنا بالقاهرة عنايتي بهذه الدروس واستفادتي منها.
وجاءت موليات الصيف، وآن لنا أن نعود إلى العاصمة، وإننا لنأخذ أهبتنا للعودة، إذ شعرت والدتي بمرض ألزمها فراشها، وتولت عمتي الحاجة العناية بها، فكانت تلازمها ليلها ونهارها، وكانت تتلو وهي في مجلسها إلى جانبها كل ما عرفت من رقى وتعاويذ، وكانت تدير البخور على رأسها تطرد به حسد الحاسد، لكن المرض كان يشتد يوما بعد يوم، واستدعى والدي الطبيب من أقرب مدينة، فلما فحص والدتي أشار بضرورة إسراعنا إلى القاهرة أو بإدخالها مستشفى المدينة القريب منا، وآثر والدي أن نعود إلى القاهرة فعدنا إليها مسرعين.
وجاء الطبيب الذي اعتادت والدتي أن تعرض نفسها عليه كلما مرضت، ففحص وأطال الفحص ودقق فيه، ثم كتب تذكرة دوائه، ووعد أن يعود المريضة بعد ثلاثة أيام، وخرج والدي معه من غرفة المريضة، ووقفا هنيهة يتهامسان، وبعد أن ودعه عاد يؤكد لوالدتي أن الأمر بسيط، ولن يمضي أسبوع حتى تكون قد استردت عافيتها، ورأيت على وجه والدتي سيما الألم ، وإن ردت إليها هذه الكلمات من الطمأنينة ما خفف بعض وقعه.
وفي المساء جاء والدي بعد أن خلع ملابسه، وتمطى على «كنبة» تواجه السرير الذي رقدت والدتي فيه، بعد أن دعا الخادم وأمرها ففرشت عليها ملاءة، ووضعت على طرفها الملاصق للحائط مخدة نوم، وعجبت لما رأيت من ذلك، فلم أر والدي من قبل ينام على هذه «الكنبة» قط، وألحت عليه والدتي أن ينام على السرير في الغرفة المجاورة لغرفتها فأبى قائلا: لقد نمت أنت على هذه «الكنبة» غير مرة حين مرضي، فلا أقل من أن أؤدي بعض ما علي من دين لك، وإن كنت موقنا أنني لن أؤدي إلا القليل، مقابل ما غمرتني به دائما من رقة وود خالص.
وغادرت الغرفة وقد زادني ما رأيت وسمعت إعجابا بأبي، وبهذا الحب المتبادل، وتمنيت أن أسعد في الحياة بمثله.
وانقضت الأيام الثلاثة التي تحدث عنها الطبيب وشكوى والدتي من عنائها لا تنقص، بل تزيد، وجاء الطبيب في موعده وأعاد الفحص وخرج بعده مع والدي، وفي صباح الغد علمت أنه سيحضر ومعه طبيبان آخران من كبار الأطباء لإجراء «كونسلتو» يشخصون بعده المرض، ويصفون علاجه. وجاء الأطباء الثلاثة بعد الظهر من ذلك اليوم، وفحصوا المريضة وما عولجت به من دواء، ثم تبادلوا الرأي، وكتبوا تذكرة جديدة.
ناپیژندل شوی مخ
كانت والدتي تذكر للأطباء الثلاثة، في أثناء الفحص، ما ينتابها الوقت بعد الوقت من آلام مبرحة، وتنظر إليهم نظرة رجاء واستعطاف لعلهم يخففون آلامها ويبرئونها من علتها، وكان الأطباء ينظر بعضهم إلى بعض لدى سماع حديثها، ثم يقول كبيرهم العبارات المطمئنة المألوفة، وكأنه يتلو وردا من الأوراد أو دعاء من الأدعية التي تتلوها عمتي الحاجة، فلا يفر ثغره عن ابتسامة، ولا يلمع في عينيه معنى الرجاء الذي طمعت والدتي في أن ترى بريقه، فلما انصرفوا وودعهم والدي وعاد إلى غرفة المريضة نظرت إليه نظرة استفهام، فقال: إنهم يستحسنون نقلك إلى المستشفى زيادة في العناية بك، وأجابته والدتي منزعجة: المستشفى؟! كلا، كل شيء إلا المستشفى، وإذا كان قد كتب لي أن أموت، فخير لي أن أموت على فراشي هذا، أما إن كان الله قد كتب لي الشفاء، فلن يكون في المستشفى شفائي.
ولبست حبرتي وبرقعي وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي.
ورأيت في عينيها دمعة تترقرق، فأخذ والدي يسكن من روعها، ويذكر لها أنه كان على يقين من أنها لن تقبل الذهاب إلى المستشفى، وأنه ذكر ذلك للأطباء، ولقد رأى أن يعيد على مسمعها ما قالوا، وأنهم يرون الخير في أن تكون في عناية ممرضة ورقابة طبيب، ثم إن والدي أضاف: وقد ذكرت لهم أننا نستطيع أن ندعو الممرضة لتكون إلى جانبك هنا، وأن طبيبك يستطيع أن يعودك كل يوم في الصباح وفي المساء.
وجف الدمع في عين والدتي، ونظرت إلى والدي نظرة عرفان، وبدت على ثغرها المتألم شبه ابتسامة، لكنها قالت: لا ضرورة لممرضة، فأنا لا أريد أن تطلع أجنبية على دخائل بيتنا، وإذا أمكن أن تحضر عمتي الحاجة إلى هنا ففيها البركة، وفي يدها الشفاء.
وكانت والدتي تحب عمتي حقا، وتبادلها عمتي هذا الحب الصادق، وقد رأيتها تحضر صبح الغد من هذا الحديث، وتدخل على والدتي تقبلها وتكرر لها الدعوات بالشفاء، وفي لحظات خلعت ملابس السفر، وجاءت وعلى رأسها طرحتها البيضاء، وجلست إلى جانب والدتي، وأخذت تتلو من الأدعية ما اطمأنت له المريضة وشعرت لسماعه براحة نفسية، لعل سببها أنه أزال ما تبدى لناظرها من شبح المستشفى ومنظر الممرضة.
وقد قامت عمتي بمهمة التمريض بإخلاص وإتقان، لما بينها وبين والدتي من الود الصادق والمحبة الخالصة، فلم تكن المريضة ترغب في شيء إلا سبقت إلى تنفيذ إرادتها بهمة لا تعرف الكلال، وكم من ليلة باتت إلى جانبها ساهرة تقص عليها من أخبار القرية أو من أخبار الحجاز ما تتسلى به المريضة عن آلام كانت مبرحة في بعض الأحيان، وكثيرا ما سمعت العمة العزيزة تمنيها بعد أن يمن الله عليها بالشفاء أن تؤدي فريضة الحج، وتزور القبر النبوي وتتمتع بلمس شباكه ولثمه، ووالدتي تسمع لذلك فيعاود نظراتها أمل يرد إليها الحياة بعد ذبولها، ولا أحسب ممرضة كانت تستطيع - وإن بلغت من الدقة في عملها أعظم مبلغ - أن تخدم المريضة بخير مما كانت تخدمها الصديقة الوفية الصادقة الود.
وكان الطبيب يعود والدتي كل يوم، بل كان يعودها مرتين أحيانا، وكان والدي يقف إلى جانبه في أثناء هذه العيادة، فإذا فرغ منها وطمأن المريضة بأن صحتها في تقدم، خرج مع والدي ووقفا برهة يتحدثان، وقد لاحظت غيرة مرة أن أسارير والدي خلال هذا الحديث كانت أدنى إلى الانقباض، وأنه كان يودع الطبيب إلى الباب، ثم لا يعود إلا بعد زمن لعله كان يحاول فيه أن يدخل غرفة المريضة بوجه تبدو عليه ملامح الطمأنينة، ولا ينم عن شيء من اليأس والألم!
ولم يكن شيء يبعث الطمأنينة إلى نفس والدتي ما تبعثها إليها صلوات عمتي الحاجة ودعواتها الصادرة من القلب، فقد كانت تؤدي الفرائض لأوقاتها على مقربة من سرير والدتي، وكنت كثيرا ما أأتم بها، فإذا ما قضيت الصلاة رفعت كفيها ضارعة إلى الله أن يشفي المريضة لتتمتع بشبابها وتفرح بابنتها، وكانت نجواها في أثناء هذه الدعوات تخالطها حرارة الإيمان الصادق والرجاء العميق في وجه الله أن يستجيب لها.
برغم هذه الدعوات، وبرغم العناية الصادقة، شعرت والدتي في إحدى الليالي بألم ممض لا قبل لها به، وأسرعت عمتي فأيقظت أخاها من نومه، وجاء والدي مسرعا يحسب أنه يستطيع أن يخفف من هذا الألم بما يضفيه على زوجه من محبة وعطف وحنان، لكن الألم قد بلغ بالمريضة، فكانت تتأوه وترسل من أعماق صدرها أنات تذيب الجماد. وأسرع والدي إلى الطبيب في منزله، فكان كل ما استطاعه أن حقن المريضة بالمورفين تسكينا لحدة الألم، وأن أشار بضرورة استدعاء زميليه اللذين شاركاه في «الكونسلتو» وفي تقرير العلاج. وهدأت حقنة المورفين من شدة الألم، وأغمضت والدتي عينيها في غفوة ذكرت لي عمتي من بعد أنهم كانوا يرجون أن تنام بعدها نوما هادئا، لكن الصباح تنفس عن معاودة الألم للمريضة، ولما جاء الأطباء وفحصوا المريضة كانت سيماهم تنطق بمعاني اليأس، ولا يبدو في نظرات بعضهم لبعض شيء من الأمل أو الرجاء، وكتبوا تذكرة دواء جديدة، وودعهم والدي منصرفين.
أفأستطيع اليوم أن أصف حالي في أثناء مرض والدتي؟ لقد انقضى الآن على ذلك الزمن ما يزيد على ثلاثين سنة، ولا أزال مع هذا أذكر كيف كنت في ذلك الظرف القاسي أدور في أنحاء الدار، كأني الروح الحائر لا يعرف لنفسه مستقرا، ثم أرتد إلى غرفة المريضة فإذا سمعتها تتأوه أو تئن اضطرب قلبي في صدري، وشعرت بالألم يحز في كبدي، فارتسم ذلك على قسمات وجهي، ثم لم يغنني ما كان يسبغه والدي علي من عظيم عطفه وسابغ حنانه، بل لقد كنت أشعر حين يزيد به الحنان عن مألوف عطفه، كأنني أصبحت يتيمة الأم، وكأنه يريد أن يكون أبي وأمي في وقت واحد، وكانت عمتي تحاول جاهدة أن تقنعني أن والدتي ولله ألف حمد وشكر تتقدم نحو العافية، وتذكر لي أنها رأت رؤيا تفسيرها أن المريضة ستعود إلى مثل صحتها في خير أيام عافيتها، وأن رؤياها لا تكذب أبدا، فأطمئن لحديثها بعض الشيء، ثم لا ألبث حين أسمع أنات الألم تكظمها المريضة جهدها، كلما رأتني مقبلة عليها، أن تذهب طمأنينتي وأشعر في دخيلة نفسي وأعماق وجداني بأنني مقبلة على أمر جلل، فتزداد روحي حيرة، ويزيدني الحنان والعطف الأبوي وحشة على وحشة.
ناپیژندل شوی مخ
وتشتد مخاوفي أحيانا، وأكاد أسائل نفسي: أأذنبت في حق والدتي يوما حتى أجثو أمامها وأطلب عفوها ومغفرتها؟ بل لقد اعتزمت ذلك يوما، ودخلت عليها أريد أن أقبل وجهها ويديها وقدميها، وأسألها العفو عما لعله سلف مني، لكنها إذ رأتني أتخطى الباب نحوها أشارت إلي إشارة فهمت منها أنها تريد أن تطالعني بشيء أو تسر إلي أمرا، فلما دنوت منها أجلستني على السرير إلى جانبها، وأخذت تقبلني وتبكي، وكأنها هي المذنبة تطلب الصفح، ولم أملك عبراتي فوضعت خدي على خدها، واختلط دمعي بدمعها، ولم تنبس أيتنا ببنت شفة.
وإننا لكذلك إذ دخل علينا والدي، ورأى ما نحن فيه ، فانهمرت من مآقيه عبرات جعل يحاول حبسها، ثم تقدم نحونا، وقد اختنق صوته، وأخذ يقول لزوجته: آمني بالله يا حبيبتي، إنه الرءوف الرحيم، وعما قريب سيشفيك، فلا ترهقي نفسك، ولا ترهقي هذه الصبية العزيزة بما لا طاقة لها باحتماله، ودفعتني أمي عنها دفعا رقيقا لدى سماعها هذه الكلمات، فخرجت من الغرفة مسرعة إلى غرفتي، وحبست نفسي، وأرسلت العنان لدموعي، وبعد هنيهة رأيت والدي يقبل علي وحمرة عينيه تشهد بأنه مسحها ساعة دخوله عندي، وما زال يتلطف بي حتى خرجت معه من الغرفة إلى البهو، وهناك جلسنا ندعو للمريضة بعاجل الشفاء.
لكن رؤيا عمتي والدعوات الصادقة الصادرة من قلوبنا جميعا لم تكن لتغير حكم القدر، فلكل أجل كتاب، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
فقد خرجت مطلع الفجر يوما من غرفتي، فإذا عمتي جالسة على باب غرفة والدتي، وإذا هي لا تكاد تراني حتى تأخذني إلى صدرها وقد هزه البكاء المختنق وتقبلني وتقول: الأمر لله يا بنيتي، والله يحفظ لك أباك. ثم إنها لم تطق كتمان بكائها، فعلا صوتها به، وبكيت أنا كذلك وارتفع صوتانا، وأقبل أبي وعليه ثياب النوم وما يزال، وأخذ يسكن من ألمي، وكل ملامحه تدل على أنه لا يقل ألما عني، وعبراته تحدث عن عميق حزنه، ولما تنفس الصبح جاء الخدم وهن يتوقعن المصاب الفاجع، فلما عرفنه ارتفعت أصواتهن بالصريخ المزعج، وبعد سويعة أقبلت جاراتنا، وانقلب البيت مناحة تدوي أصواتها فيما حولنا من الأرجاء.
وتركنا والدي إلى غرفته وهو يدق رأسه كأنما خرج الألم به عن صوابه، وأقبل صديق له من جيراننا سمع الصريخ، وكان يتردد من قبل على والدي يسأل عن أخبار زوجته، فلما رآه والدي ناداه قائلا: أرأيت يا أخي خراب بيتي؟! وأخذ الصديق يسكن من لوعة صديقه، ويذكر له أن أهله ومعارفه سيحضرون له عما قريب، فلا مفر له، برغم هول المصاب، من أن يتجمل بالصبر حين يتقبل العزاء، وذهب الرجلان إلى السلاملك بعد أن ذهب والدي إلى غرفته، وارتدى ملابسه محاولا جهد طاقته أن يبدو في وقاره الذي اشتهر به وعرف عنه.
ودفنت أمي في مشهد مهيب، وتقضت ليالي المأتم الثلاث، وانصرف المعزون والمعزيات، وأقفر بيتنا من روحه، فكنت أرى والدي يتنقل فيه من غرفة إلى غرفة، في حين كانت عمتي تدير شئونه وتبذل الجهد لراحة أخيها وراحتي، وكم رأيت أبي في تطوافه من غرفة إلى غرفة يدق يدا بيد، أو يسير شارد الذهن، مشتت اللب كأنما أذهله الخطب الذي نزل بنا! أو كأنما يفكر في أمر خطير، وكنت كلما رأيته على هذه الحال ازددت شعورا بفداحة اليتم الذي أصابني فحرمني حنان الأم وأنا أشد ما أكون حاجة إليه. وكان والدي يحاول ما استطاع أن يخفف لوعتي، غير متكلف في محاولاته إلا ما يمليه عليه وجدانه، وتفيض به عاطفة الأبوة، وقد اختص بها الابنة الوحيدة التي رزقها منذ تزوج، وكنت ألمح في عينيه حين يحدثني أنه لم يبق له في الحياة أمل غيري، وكنت أتمنى لذلك لو استطعت أن أدخل إلى قلبه من السعادة ما كانت أمي تدخله على هذا القلب العطوف الرقيق، ولم يجر في خاطري أن أبي يمكن أن يتزوج بعد موت أمي، وإنني لفي براءة صباي إذ طرق سمعي حديث يتبادله الخدم فيما بينهن وهن لا يرينني، حديث أفزعني ولم أكد أصدقه، قالت إحداهن إنها سمعت عمتي تتحدث إلى أخيها بأنه لا يزال في فتوة رجولته، وأن بيته لا يصلح إلا أن يتزوج، وأن والدي أظهر بادئ الرأي عدم الرضا إكراما لذكرى المرحومة أمي، بعد الذي كان بينهما من صادق الحب، فكان جواب أخته أنها كانت تحب المتوفاة كما كان يحبها، وأنها حزنت لموتها مثل حزنه، لكن لله في تصاريفه أحكاما لا يدركها البشر، وإنا إذا وجب علينا الوفاء لمن نحب فذلك واجب ما عاش المحبوب، أما إذا اختاره الله إلى جواره فقد سقط عنا هذا التكليف؛ لأن قيمة الوفاء في تبادله، فإذا لم يكن متبادلا فلا مسوغ لوجوده، والأموات يحلوننا بموتهم من واجب الوفاء لهم، ثم إن عمتي ضربت على الوتر الحساس من قلب أخيها، فقالت: ولعل الله قد كتب لك ذرية صالحة من البنين يحفظون اسمك، ويفتحون بيتك، والزواج سبيلك إلى هذه الذرية، وابنتك هذه لا تستطيع أن تعيش وحدها في هذا البيت الفسيح، فهي بحاجة إلى من تحسن توجيهها، وتقوم بشأنك وشأنها.
وسمع والدي هذا الكلام من عمتي فأطرق قليلا، ثم خرج بالصمت عن كل جواب، وسمعت أنا هذا الكلام من خادمات البيت فأخرجني من أحلامي السوداء حزنا على أمي إلى مخاوف أشد سوادا؛ إشفاقا من المستقبل الذي يفغر فاه ليبتلعني في جحيمه، لكنني لم أكن أستطيع أن أقول شيئا أو أنبس بكلمة، وكل الذي فعلت أن منيت نفسي أن تكون إطراقة أبي شاهدا بعدم رضاه عما سمعه من أخته، ولقد بدأت أشعر لهذه العمة بالبغض والكراهية، وبدأت أفر من كل مكان أراها فيه، فإذا جلست في بهو الطابق الأول أو نزلت إلى الطابق الأرضي أسرعت إلى الحديقة ألتمس فيها الوحدة، وإذا نزلت إلى الحديقة - وقلما كانت تفعل - صعدت إلى الطابق الأعلى والتمست في غرفتي ملجأ أسكب فيه الدمع السخين على هذا اليتم الباكر.
ولست أدري أأفضت عمتي إلى والدي بميلي إلى العزلة، أم أنه لاحظ هذا الميل من تلقاء نفسه، أم أنه كان صريحا حين قال لي إن عمتي تريد العودة إلى قريتها، وإنه يؤثر أن نغير الهواء بالسفر إلى الإسكندرية والمقام بها أسبوعا أو أسبوعين؟
وسافرنا بالفعل، وسافرت معنا طاهيتنا، ونزلنا طابقا صغيرا استأجره والدي من أحد معارفه كانت به خادم صغيرة السن تتقن تنظيف المسكن وقضاء ما تحتاج إليه الطاهية من السوق القريبة منا.
وكان لهذا التغير في لون حياتنا من الأثر الحسن على نفسيتي ما خفف بعض الشيء من عميق لوعتي، فقد كنت أجد من هواء البحر المنعش في هذه الأيام الأولى من فصل الخريف ما ينشط ذابل حيويتي، وكنت أجد في زرقته الممتدة إلى الأفق حيث يتعانق الماء والسماء مسرحا لأفكار مبهمة يذوب خلالها جوى الحزن الذي ناء به صدري ، وكان صريف أمواجه المتكسرة على الشاطئ يداعب سمعي وكأنه أنغام يبعث تشابهها إلى الأعصاب نوعا من السآمة المريحة التي تدعونا إلى النوم كما تدعو أنغام الأم طفلها الرضيع إليه.
ناپیژندل شوی مخ
ثم إنني قلما كنت أرى ما ينبهني إلى ذكر والدتي، فقد كان والدي يخرج كل صباح، ثم لا يعود إلا لتناول طعام الغداء، وليستريح بعده في سريره ساعة يخرج بعدها من جديد، ولم أكن أسأله كيف كان يقضي وقته، وكانت الطاهية تدخل مطبخها في الصباح لإعداد الإفطار، ثم لإعداد طعام النهار، أما الخادم الصغيرة فكانت من الإسكندرية، ولم أكن قد رأيتها من قبل، وقلما كنت أجد الفرصة للتحدث إليها، إلا حين تصحبني ساعة خروجي بعد الظهر أسير على شاطئ البحر، وفي تلك الساعة كانت تقص علي أنباء تافهة عن مخدوميها أصحاب الطابق الذي نقيم به، ولم يثر عنايتي من حديثها إلا إعجابها الذي لا حد له بجمال سيدتها، وجمال أخت هذه السيدة التي تزوجت قبلها، ثم ظلت سنوات مع زوجها لم تنجب فطلقها؛ لأنها لم ترض أن تشاركها فيه امرأة أخرى يرجو أن يرزق منها الخلف الصالح.
على أن هذه المسكينة المحسنة التي خففت بعض لوعتي لم تبلغ أن أنستني فادح مصابي، ولا حجبت عني طيف المتوفاة العزيزة التي أذاقني موتها طعم اليتم المرير، فقد كانت تتبدى لي في أحلامي، وكنت أرى طيفها في شبه اليقظة وأنا أنظر من الدار إلى غاية الأفق، وكأنها ترنو إلي بعيون ممتلئة حنانا وعطفا، وكثيرا ما كنت أناجي السماء عند هذا الأفق البعيد أسائلها: لم حرمني الله أمي وما جنت ذنبا، بل كانت البر والرحمة بكل محتاج إلى البر وإلى الرحمة؟!
وكنت أعيد هذا السؤال على نفسي إذا تبدت لي أمي في أثناء النوم، ثم استيقظت بكرة الصباح دامعة العين منقبضة النفس، واستبد بي هذا السؤال أيامنا الأخيرة بالإسكندرية، حتى كنت أخرج أحيانا من صلاتي قبل أن أتمها مخافة أن يجزيني الله بالتعرض لقضائه أو الاعتراض عليه، وكنت في بعض الأحيان أجمع بين يدي كل قوتي، وأمضي في الاعتراض على ما أراه ظلما وقع بوالدتي وبي، حتى إذا شعرت أنني أصبحت على شفا جرف من هاوية التجديف ارتددت فزعة أبكي، وأنا لا أدري: أكان بكائي فرقا من هول ما اجترحت في حق ربي، أم من هول المصاب الذي أذبل صباي وشبابي، وجعلني أرى المستقبل أمامي أسود لا يبدد ظلمته خيط من ضياء؟
وأدت بي هذه الحال إلى إهمال بعض صلواتي، وكنت من قبل حريصة على ألا يفوتني فرض منها، كما بدأ يخامرني شيء من الشك فيما كان أستاذي يلقيه علي من دروس الديانة.
وعدنا إلى القاهرة لموعد بدء الدراسة في المدرسة السنية، فلما كنت بين زميلاتي ومعلماتي لم أجد بدا من العودة إلى العناية بمصلى المدرسة محافظة على مكانتي، وانخرطت في الدرس، وضاعفت مذاكرة علومي في البيت، ووجدت في ذلك مسلاة عن همي، وجاءت عمتي من جديد فتولت تدبير المنزل، ثم أعفتني المذاكرة من طول المكث معها، واطردت حياتنا على هذه الوتيرة زمنا كان والدي يسبغ علي في أثنائه أضعاف ما كان يسبغه علي من قبل من عطف وحنان، وأخذت عمتي تدنيني منها، فأنساني مر الزمن ما سمعته من خدم البيت عن حديثها مع أبي في أمر زواجه، فلم تبق في نفسي من ناحيتها تلك الحفيظة التي شعرت بها من قبل، وتعودت حياة اليتم وأخذت أشعر بضرورة الاعتماد على نفسي في كل شأن من شئوني، وبأني مطالبة فوق ذلك بالاشتراك مع عمتي في تدبير شئوننا المنزلية، وبخاصة ما تعلق براحة أبي في ملبسه وفي غرفة نومه، آملة أن يجد في عنايتي بأمره ما يصرفه عن التفكير في الزواج.
الفصل الثاني
أقبل شهر رمضان بعد أسابيع من بدء السنة الدراسية، فاختار أبي فقيها ندي الصوت، أحيا لياليه مع الفقيه الذي ألفنا سماعه عندنا في هذا الشهر المبارك، فلما كان عيد الفطر خرجت مع والدي وعمتي وزرنا قبر والدتي، وذرفت عليه دمعات سخينة، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر التي أحضرها والدي، وبعد شهرين كان عيد الأضحى، فزرنا القبر كرة أخرى، وسمعنا عنده من يرتل القرآن، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر، وشعرت بدمعي أقل سخاء مما كان في عيد الفطر، وإن بقي قلبي يشعر بألم اليتم شعورا قاسيا عميقا.
وبعد أسبوعين علمت أن أبي سافر إلى الإسكندرية لأمر لم أعرفه ولم تطل غيبته هناك غير أسبوع ثم عاد إلينا وقد تزوج.
تزوج السيدة الجميلة المطلقة شقيقة صاحبة الطابق الذي نزلنا به حين سافرت معه، فلما دخل البيت معها ناداني وقال: سلمي على «تيزة». ونظرت إليها فإذا هي جميلة هذا الجمال الشركسي البارع، فارعة القد، عالية العنق، دعجاء العينين، رقيقة البشرة، دقيقة الأنف والشفتين، يلفت جمالها النظر ويمسكه.
وسلمت عليها في تأديب، وبقيت هنيهة صامتة، ثم شعرت بأني أطلت المقام، فانفلت مسرعة إلى غرفتي، وقد أحسست بالعبرات تملأ عيني، وخشيت عدم القدرة على أن أحبس في صدري نشيج البكاء، وأغلقت باب الغرفة، وانخرطت في حزن صامت مخافة أن يسمع أبي صوتي، ترى ما عسى أن يكون مصيري مع هذه السيدة البارعة الجمال؟ وهل اصطحبني والدي إلى الإسكندرية ليخطبها إلى نفسه وأنا عما صنع في جهل وعماية؟
ناپیژندل شوی مخ
لا ريب أن عمتي لن تلبث أن تغادرنا إلى قريتها وتترك أمر البيت وتدبيره إلى الزوجة الجديدة التي حلت محل أمي، وأصبحت ربة البيت ومن فيه، وستغادرنا عمتي بعد أن دبرت هذا الزواج مع أبي، وبعد أن علمت به منذ عدنا من الإسكندرية، ثم كتمته عني كل هذا الزمن.
وطال احتباسي في غرفتي، ولم يدعني أبي ولم تدعنى زوجه للانضمام إليهما، ولم تفكر عمتي في الدخول علي لمواساتي، وأغلب الظن أنهم رأوا الخير في تركي أسلس العنان لعواطفي في هذه اللحظة الأولى؛ تقديرا منهم لما أثاره هذا الموقف في نفسي من ذكر أمي وذكر مرضها وموتها، لكنني لم أقدر الأمر على هذا النحو في هذه اللحظة، فقد أيقنت أن العزلة أصبحت نصيبي، وأن هذه الزوج الجديدة قد اختطفت أبي كما اختطف الموت أمي، وأني لم يبق لي إلا أن أعتصم برحمة الله وأنزل على حكم قضائه القاسي.
ولم يدر بخاطري أن زوج أبي لم تلبث بعد أن اطمأنت إلى مكانها من بيتها الجديد أن قامت تدور في أرجائه لترسم في ذهنها صورته، ولترسم بعد ذلك أسباب تدبيره، وإنني لفي مجلسي من غرفتي وقد جف دمعي، وإن ظلت عيناي محمرتين من أثر البكاء، إذ فتح الباب ورأيت الأب والزوج والعمة يدخلون علي ثم يقول أبي موجها الكلام إلي: أنت هنا يا ابنتي! وسرعان ما أقبلت زوجه نحوي وأخذت تطري نظام الغرفة وحسن ذوقي في تنسيقها، وكان صوتها رقيقا فيه من الحنان ما لم تتكلفه، فلما آن لهم أن يتركوا الغرفة أخذتني من يدي، وأخذت تسألني عن شأني سؤال من يعنيه أمري ويحرص على راحتي، ونظرت إليها ألتمس مبلغ الصدق في كلامها فسحرني جمالها، وخلتها ملاكا كريما بعثت به السماء ليضمد جراحي، ويأسو كلوم قلبي!
وسرت إلى جانبها وهي ممسكة بيدي، فلما كنا في البهو وأخذنا مجالسنا منه رأيتها تفتح حقيبة وتخرج منها عقدا جميلا تثبته حول عنقي، ثم تخرج من حقيبة يدها مرآتها الصغيرة لأنظر جمال العقد على صدري، ونظرت في المرآة فأعجبني العقد، وكان أول مصاغ تحليت به من نوعه، وأدرت عيني إلى ناحية أبي، فإذا على ثغره ابتسامة راضية تشهد باغتباطه لما يرى.
غادرتنا عمتي بعد ثلاثة أيام إلى قريتها، وانخرطت أنا في نشاطي المدرسي، وفي الدروس الخاصة التي كنت أتلقاها في اللغة العربية وفي الديانة، وأنا أحسب أن شيئا ما لم يتغير في حياتي المنزلية، ترى هل كان للجمال البارع الذي اختصت به زوج أبي أثر في هذا الحسبان؟ فقد تخطت الثلاثين وكانت في نظرتها مع ذلك براءة الطفولة، وفي ضحكتها سذاجة الصبا الذي تتفتح عنه هذه الطفولة، وكانت قسمات محياها كأنما صورها فنان أدق تصوير مر بخياله، وكان شعرها الناعم الفاحم المنسدل على كتفيها خير إطار يزيد حديث عيونها بلاغة، وجمال قسماتها روعة وسحرا، وكان قوامها بهجة للنظر باعتداله ودقته، وكان كل شيء فيها يقف الناظر إليها مسبحا بقدرة الخالق الذي أبدع هذه الفتنة الباهرة، وكانت حركاتها وسكناتها طبيعية، وتبدو مع ذلك وكأنما درست بعناية لم تذر للمصادفة حظا في شيء منها، وكنت كلما رأيتها سحرت بها وازددت إيمانا بالله بارئها وشعرت بأن لجمالها من السلطان على جناني ما كان لحنان الأم الرءوم من السلطان على وجودي كله.
تنصفت السنة الدراسية ثم قاربت نهايتها وأنا منكبة أشد الانكباب على دروسي، ووالدي يحضر كعادته درسي الخاص مع الشيخ موضع ثقته، وإنني لكذلك إذ مرضت وانقطعت عن المدرسة قرابة عشرة أيام، فلما أبللت وأردت الإقبال على الدرس لأستعيض ما فاتني في أثناء علتي، دعاني والدي إليه وقال لي: «لقد رأيت يا ابنتي خوفا على صحتك أن تنقطعي عن المدرسة ولا تذهبي إليها منذ غد.»
ولم يكن لي عهد بأن أناقش قرارا اتخذه، فخرجت من عنده وآويت إلى غرفتي وقد عرتني الدهشة، صحيح أنني كنت أسمع زوج أبي تبدي من البرم بتعليم البنات الشيء الكثير، وتذكر أن البنت خلقت للبيت وللأمومة، لا لممارسة الأعمال والوظائف الحكومية، وأن الخير لذلك كل الخير في أن تتدرب منذ صباها الباكر لتتقن ما ستقوم به في مستقبل حياتها.
لكني لم أكن أعير حديثها في هذا الشأن بالا؛ لأني كنت أعلم أن أبي على غير هذا الرأي، وأنه يرى أن تعليم الفتاة تعليما عاليا بعض ما يجب لكمال وجودها الإنساني، واحتياطا لمستقبلها حتى يكون لها فيه من الحرية ما يرفع عنها ذلة العبودية للرجل، أيا كان مصدر هذه الذلة، فماذا حدث؟ ما الذي دفع والدي ليبلغني هذا القرار ولم أبلغ بعد من التعليم غاية مرحلته الثانوية؟ وهل للمرأة من الأثر على الرجل، وإن كان حصيفا حصافة أبي، أن تبدل تفكيره كما تشاء؟ أم أن السلطان كان لهذا الجمال الساحر الذي اختصت به زوج أبي؟ أيا كان الأمر لقد أيقنت من اللهجة التي أبلغ بها هذا القرار إلي أنه قرار مبرم، لا رجعة فيه.
وكان لهذا القرار أسوأ الأثر في حياتي، فقد أنشأ عندي عقدة نفسية لازمتني، ولم أنج قط منها ، وقد كان الأثر الأول لقرار أبي أن بدأت أعرف ما كنت أجهل، بدأت أعرف الكراهية، وكان قلبي لا يعرف غير الحب، كنت أحب الناس على اختلاف طبقاتهم، وكنت أحب الطبيعة وفتنة جمالها، وكنت أحب الحيوان والطير، وكنت أحب الحياة ونعمتها حبا جما؛ ذلك بأنني لم أشعر منذ ولدت بما يزهدني في الحياة، بل كان المتاع بها وبكل ما فيها بعض حظي. لقد كنت وحيدة بين أمي وأبي، وكانا يفيضان علي من حنانهما وبرهما ما يجعل الهواء الذي أتنفسه كله الحنان والرحمة، وكله المحبة والود، وكله نسمات السحر وبسمات الزهر وأغاريد الطير والشذا المتضوع بأرق العواطف وأحلاها، لكني ما لبثت حين سمعت هذا القرار يبلغه إلي أبي أن شعرت بأن زوجه صاحبة الوحي به، وأن ما أسمعه عن زوج الأب وبرمها بأبناء زوجها صحيح، وشعرت لذلك بهذه العاطفة الكريهة عاطفة الكراهية تندس إلى قلبي، وتجد منه مكانا لم يكن لها من قبل فيه موضع.
وعجبت كيف ينطوي هذا الجمال الفاتن الذي صوره الله في هيئة هذه المرأة على روح خبيثة كل هذا الخبث، وكيف تستر هذه النظرات البريئة قلبا آثما كل هذا الإثم! وأيقنت في قرارة نفسي أن برمها بتعليم البنت لم يكن رأيا تؤمن به وتبديه، بل كانت البنت أنا، وكانت برمة بتعليمي أنا، ولهذا لجأت إلى كل وسائلها وكل حبائلها وكل شباكها، فانتشرت بسلطان جمالها في دخيلة أبي، وحملته على أن يتخذ قراره فيحرمني نعمة كانت لذتي وسلواي، وكانت صارفي عن أن أرى ما في الحياة من قبح وسخف.
ناپیژندل شوی مخ
وأخذت أفكر كيف أقاوم ما قررا، ولم يكن الذهاب إلى المدرسة سبيلي بطبيعة الحال إلى هذه المقاومة، فأنا لم أكن أذهب إليها وحدي، بل كان يصحبني في ذهابي إليها وأوبتي منها بوابنا العجوز، كما أنني لم أكن أستطيع أن أعلن هذا العصيان الصريح، وأنا موقنة أن ثورتي لن تلبث أن تتحطم، ولن يكون من أثرها إلا أن يغضب مني والدي وتشمت زوجه بي، ولذلك قررت أن أقضي معظم وقتي في قراءة ما أستطيع قراءته من كتب عربية وإنجليزية أستطيع الحصول عليها بوسائلي، ولم أجرؤ يومئذ أن أستشير أحدا فيما أقرؤه، فكنت أقرأ كل ما يقع في يدي، صالحا كان أو طالحا، نافعا كان أو ضارا.
وبدأت زوج أبي تشغل نهاري بما سمته إعدادي لحياتي المقبلة، فأخذت تعلمني التطريز والخياطة والطهي وما إلى ذلك مما يتصل في نظرها بتدبير المنزل، فهي لم تكن تعرف القراءة والكتابة، لكنها كانت تجيد هذه الأعمال كما كانت تجيد العناية بجمالها كل الإجادة؛ لذلك كان إشرافها على نظام المنزل وحسن تدبيره وعلى كل ما نأكل ونشرب بالغا غاية الدقة، صحيح أنها لم تكن تباشر من ذلك شيئا بنفسها، لكن نظرتها إلى ما يجري في المطبخ أو في الكرار، وإلى ترتيب الأثاث وحسن تنسيقه، وما تبديه في هذه الشئون من نقد وما تصدره من أوامر، ذلك كان كافيا ليجعل عيون الخدم في رءوسهم، فلا يهملون شيئا، ولا يغفلون واجبا، وهي لم تكن مسرفة ولم تكن مقترة، وكانت تعرف كيف تضع كل شيء في محله؛ لذلك أسرعت إلى كسب ثقة أبي كما كسب جمالها ناظره وقلبه وعواطفه منذ اللحظة الأولى.
أما أنا فلم أكن شديدة الإقبال على ما تعلمني من شئون المنزل، أكان ذلك رغبة مني عن هذه الشئون، أم كان لأنها هي التي تعلمني إياها؟ وقد خلق انقطاعي عن المدرسة جفوة بيني وبينها جعل كل ما تقوله لي أو تريدني أن أتعلمه موضع الريبة عندي، وأقبل والدي يوما يوجه إلي لوما رقيقا على ما يبدو من عدم إقبالي، وينصح لي في لطف أن أقدر عناية زوجه بي وحرصها على مستقبلي، فازددت بسبب ملاحظته نفورا من زوجه؛ إذ شعرت أنها تريد أن تصرف عني محبته لتستأثر وحدها بكل قلبه، وذكرت له أنني ربما ازددت إقبالا على هذه الشئون لو تعلمتها في مدرسة، فابتسم ابتسامة ذات معنى وتركني وشأني؛ إذ أدرك أنني أريد أن أبتعد عن البيت وربته جهد المستطاع.
وخيل إلي بعد زمن أنني وجدت الوسيلة لما أريد ، فذكرت لأبي بحضور زوجه أن المرحومة والدتي كانت تود لو تعلمت البيانو، ذكرت ذلك وكنت مقتنعة بأن امرأة والدي ستعارضه، ولشد ما كانت دهشتي إذ رأيتها تقول: كلامك هذا معقول يا عزيزتي، فكل فتاة مهذبة لا تعرف اليوم أن تلعب إحدى آلات الطرب ينقصها شيء جوهري لحياتها الزوجية، ثم أشارت إلى والدي قائلة: ومن الخير أن تشتري لها البيانو منذ الآن، فهو بعض جهازها، ومتى جيء به إلى البيت جاءت معلمته تدرسه إلى بنتنا.
ونظر إلي أبي مبتسما، وهز رأسه كأنما يعاتبني على ما يدور بخاطري من ظنون بزوجه، وكأنما يقول لي: إن روحها جميلة جمال شخصها، وإنها تحبني حبها لابنة أحشائها. وجاوبت ابتسامته بابتسامة مثلها شكرا له على عطفه، وانتظارا للبيانو الذي كنت أحلم به.
وكان حقا علي أن أشكر زوج أبي لتأييدها طلبي، لكنني لم أفعل، فقد كنت أريد أن أتخذ من تعليم البيانو فرصة للفرار من جو المنزل، أما أن تجيء معلمة البيانو إليه فقد أصبحت دروسه تحت سمع امرأة أبي وبصرها، وهذا السمع والبصر يضيعان علي الفرصة التي كنت أطمع في انتهازها، ولم أكن أستطيع أن أعبر عما يخالج خاطري من ذلك مخافة أن يساء تأويله، وما أغناني عن سوء التأويل، وحسبي أن صديقتي وزميلتي التي كانت تقيم على مقربة منا كانت تكثر التردد علي، وكان يسمح لي برد بعض زياراتها.
واشترى والدي البيانو، وجاءت معلمته فأكببت على استذكار دروسه إكبابي على قراءة كتبي، بذلك شغلت معظم وقتي ولم يبق فيه لتدبير المنزل في صحبة زوج أبي ما يثقل على نفسي أو تنوء به روحي، ومع ذلك بقيت الحيرة تتولاني كلما خلوت هنيهة إلى نفسي، وأشعر كأني غريبة في هذا المنزل الذي ولدت به، والذي أعيش فيه مع أبي، وكأن روحا آخر يرفرف من وراء الحجب، يريد أن يطمئن علي، وعلى أنني لا أنوء بألم الحياة.
وكان أبي يشاركني الحيرة، وإن كانت حيرته من نوع آخر، لقد كان يسبقني إلى رغباتي، فلم أكن أطلب شيئا إلا أجابني إليه، وأضاف إلى ما طلبت ما يظنه يزيد في غبطتي، وكان يرى زوجه تشاركه في العمل على إرضائي، ثم يراني برغم ذلك قليلة الابتسام ميالة إلى العزلة، يبدو علي دائما أن شيئا ينقصني، وأنني غير مستريحة لما أنا فيه، وكان من حقه والأمر كذلك ألا يعبأ باعتزالي، لكنه مع ذلك يحاول دائما أن يبلغ مرضاتي، على حين كانت زوجه ترى في تصرفه من المبالغة في تدليلي ما لا يتفق مع حسن تربيتي.
ولقد طالما ذكرت تلك الأيام، بعد أن تزوجت وصرت أما، وطالما سألت نفسي: أكنت متجنية في حيرتي وفي عزلتي وفي عدم رضاي؟ فلم يكن ينقصني يومذاك شيء، ولم تكن زوج أبي تسيئني بكلمة، وكان جوابي عن هذا التساؤل هو الجواب الطبيعي، فسعادتنا لا تتعلق بحاجتنا المادية بقدر ما تتعلق بحالتنا النفسية، وبإحساسنا وعواطفنا، ولئن جرت في شأن امرأة الأب الأقاويل، لحق أن زوج أبي لم تتعمد يوما أن تجرح عواطفي، أو أن تمنع عني خيرا، بل لقد كنت أرى والدتي قبل مرضها ووفاتها توجه إلي من ألوان النقد ما لم توجهه إلي زوج أبي.
لكن النقد الذي كانت توجهه إلي أمي، والذي كان يغضبني أحيانا، كان صادرا من أمي، كان الدواء الذي لا نسيغ طعمه أحيانا ولكننا نرى فيه الشفاء، فإذا لم نؤمن بأن فيه الشفاء فلا ريب عندنا في أنه صادر من قلب سليم، وإخلاص صادق لخيرنا، بلا ريب عندنا في أن الحنان المتفجر من أعماق القلب البر العطوف، قلب الأم، يمحو كل ما في هذا الكلام من شائبة تكدر صفونا. وهل الأم كلها، وكل ما يصدر عنها، إلا حنان وبر وعطف، وإيثار لبنيها على نفسها؟ وهل الأم وما أنجبت إلا شجرة واحدة تتشعب فروعها، وكل ما يمتصه الجذع من أسباب الحياة إنما يمتصه لحساب هذه الفروع ولبهائها ونمائها وحسن إثمارها؟ أولا تدل قوانين الوراثة على أن الأسرة وحدة متصلة على الزمن، وأن عصارة الحياة في عروق الأجداد تمتد إلى أحفاد الأحفاد، وقلب الأم يعرف نفسه ، ولا يفرح لصاحبته أو يأسى لما يصيبها، وإنما فرحه لابنها أو لابنتها، وأساه لما يصيبهم؟! والأم تجمع إلى قلبها قلب الأب لتسكبه حنانا ومحبة وبرا في روح ذريتها، هذا كله تراث معنوي ضخم هو مصدر طمأنينتنا للحياة وسعادتنا فيها.
ناپیژندل شوی مخ
أما زوج الأب فشخص مستقل عنا كاستقلالنا عنه، تتضارب مصالحه مع مصالحنا، وميوله مع ميولنا، وهي تنافسنا في كسب قلب أبينا زوجها، قد تنشأ بيننا وبينها صداقة، ولكن محال أن يربط الحب الصادق بين قلبها وقلبنا، وأنى لها حب الوالدين لأبنائهما، وإن بلغت من طيبة القلب وصفاء النفس أعظم مبلغ؟ أذكر قصة طريفة تصور في سخرية عاطفة الأمومة، وكيف تسمو بفطرتها على العقل ومنطقه، فقد كان لواحد من أقارب أبي زوجتان أنجبتا في عام واحد ولدا وبنتا، وكبر الطفلان، وكان للولد غرام بأن يعض بأسنانه من يناوشه، وتأصلت هذه العادة فيه، فكان يلجأ إليها من غير أن يناوشه أحد، وإن أخته لتجلس إلى جانبه يوما إذ بدا له أن يعضها ففرت منه إلى أمها، وحمتها أمها من أخيها فبكى وأمعن في البكاء، وعرفت أمه سبب بكائه فصاحت بضرتها: «ألا تشفقين على هذا الطفل؟ وما ضر أخته إذا هو عضها واستراح وانصرف عن البكاء؟»
فأجابت أم الطفلة: «أتريدين أن يستريح هو وأن تبكي أخته لغير ذنب جنت؟ فليبك ولينفلق من البكاء فلن أريح شذوذه!»
وتبادلت الضرتان ما شاءت الشحناء أن تتبادلاه من عبارات أوحت بها لكل واحدة منهما أمومتها، ألا يدل ما في هذا الحادث من سخرية وسخف على احتقار نظرة الأمومة لكل منطق؟ أو لو كان الطفلان توءمين لأم واحدة، أفكانت تحاول أن تريح شهوة الولد على حساب البنت، أو أن تدع الولد يمعن في بكائه ولو انفلق؟ أم كانت تجد في حنان أمومتها ما يسكن الطفل عن غضبه، وما يصلح بينه وبين أخته من غير أن يعضها؟
ولا ذنب على زوج الأب فيما تتهمها به الأقاويل، فالأقاويل تريدها أن تكون لغير بنيها، وهي لا تستطيع ذلك وإن حاولته ، ولا وزر في ذلك عليها، إنما الوزر على الرجل الذي تزوج بعدما أنجب بنين، سواء تزوج في حياة زوجه الأولى أو بعد وفاتها، وما حاجة الرجال إلى الزواج بعد أن يصبحوا آباء؟! إن نساء كثيرات يكرسن حياتهن لتربية ذريتهن، وحق على كل امرأة وكل رجل أن يكون ذلك شأنه.
لست أدري لم أنزع الساعة للدفاع عن امرأة الأب بعد الذي كنت فيه من حيرة وعزلة وعدم رضا منذ تزوج أبي إثر وفاة أمي؟! فلأدع هذا ولأعد إلى قصتي، لقد انقضت الشهور منذ اشترى والدي لي البيانو، ومنذ عكفت نهاري على استذكار دروسه عكوفا أنساني شئون المنزل، وكيف تكون العناية بتدبيره، مع ذلك بقيت أشعر بالوحدة والعزلة برغم عطف أبي وحنانه، ولقد زاد في شعوري هذا حادث لم أكن أحسب أنه سيترك في نفسي أثرا، فقد كان طبيب من كبار الأطباء المتخصصين في أمراض النساء يتردد على المنزل ويعود زوج أبي، وقد كان أول أمره لا يبدو عليه حين انصرافه ما يدل على جديد، واستمر كذلك شهورا حتى رأيته يوما متهللا، ورأيت والدي يودعه إلى الباب الخارجي وعلى ثغره ابتسامة عريضة تنم عن مسرته واغتباطه، وسرعان ما علمت أن زوج أبي حامل، وذكرت لسماع هذا النبأ حديث عمتي لأبي بعد قليل من وفاة أمي تحرضه على الزواج لينجب الخلف الصالح، وليكون له بنون يحفظون له اسمه وذكره. عما قريب إذن سيشركني في عطف أبي طفل يستأثر بقلب أمه وبكل روحها ووجودها.
أتراني يومئذ أحب هذا الطفل كما لو كان ابن أبي وأمي؟ وماذا يكون موقف أمه مني؟ لعلي لم أبلغ من تحليل الموقف ما يجول الآن بخاطري، ولكني ازددت إكبابا على البيانو نهارا وعلى القراءة ليلا، ولم ألق بالا لما بدا على زوج أبي من أعراض كانت تلزمها سريرها أحيانا، وتدعوها لتكليفي بمراقبة ما يدور في المنزل، أما أبي فقد ازداد حدبا على زوجه ورعاية لها، وجعل يدعو الطبيب ليراها كل أسبوع أو أسبوعين مبالغة في العناية بها، وبالطفل المستكن في أحشائها، وكان الطبيب يستصحب في بعض زياراته طبيبا شابا يعاونه في قياس الضغط، أو في إجراء بعض تحاليل سريعة يرى الطبيب المباشر أنه في حاجة للوقوف على نتائجها لوقته.
وكان هذا الطبيب الشاب وسيما دقيق العناية بهندامه، وفي عينيه بريق خاص ينم عن الذكاء والطيبة مجتمعين، وقد كان يسرع بالدخول مع الطبيب الكبير إلى غرفة الحامل، فكان قصاراي أن ألمحه من وراء حجاب ساعة دخوله وخروجه، وكانت نظراته وحركاته تجعلني أغتبط بما أرى منه، وأود لو أستطيع التعرف إليه، أما هو فكان في شغل عني بما يوكل إليه إجراؤه في أثناء الزيارة، فإذا انصرف مع الطبيب الكبير المتخصص في أمراض النساء تابعته بنظري من نافذة غرفتي.
ولم يكن لي سبيل إلى التعرف إليه، والحجاب المضروب على النساء كان يومئذ على أشده، فلم يكن يتاح لواحدة من بنات طبقتنا أن تقف مع رجل أو تتحدث إليه أيا كانت سنه، بل لقد كانت الفتاة تخطب إلى شاب لم تعرفه ولم تره، ويكون القول الفصل في زواجها منه لأمها ولأبيها، وكان العار أكبر العار أن يكون لها في الأمر رأي، أو تكون لها فيه كلمة.
وانقضت مدة الحمل، ووضعت زوج أبي غلاما جميلا ابتهج والدي بمولده، وفاض عنه السرور به، وجاءت أخت زوج أبي، وأقامت لها حفل «سبوع» منقطع النظير، بدأت أشعر نحو هذا الطفل البريء بعاطفة الأخوة التي لم أعرفها من قبل، فلما صلب عوده وأصبح مستطاعا حمله كنت آخذه من مربيته وأضعه في العربة في بهو الطابق الأول، كما كنت أجد في النزول به إلى الحديقة خير تسلية، حتى لقد كانت هذه التسلية تصرفني إلى حد كبير عن استذكار دروس البيانو.
وتوعك الطفل فجن جنون أمه، وأسرعت إلى استدعاء الطبيب الشاب الذي عرفته أيام حملها، وفحص الطبيب الطفل وطمأن أمه وأباه، وأخذ يحدثهما عما يجب من رعاية «لولي العهد»، ورغبت الأم أن أسمع كلام الطبيب اقتناعا منها بأنني أقدر من المربية على العناية بالطفل، ولم يجد أبي بأسا بدعوتي، فلو أنني مرضت لعادني هذا الطبيب وأنا في فراشي، فلما ناداني وعرفت أن الطبيب لا يزال في غرفة الطفل شعرت بقلبي يخفق، ثم هدأت نفسي إذ وجدت الفرصة سانحة لما كنت أطمع فيه من التعرف إلى هذا الشاب الذي كان يكبرني بعشر سنوات أو نحوها ومن محادثته، واستمعت إليه يصف الدواء، فأخذت أسأله عن تفاصيل طعام الطفل وشرابه ونومه واستحمامه، وسرت زوج أبي بما بدا من عنايتي بابنها، فنظرت إلى الطبيب نظرة استعطاف، وقالت: لا تؤاخذها يا دكتور، فهي تحب أخاها أصدق الحب، وهي تتولى الكثير من شئونه.
ناپیژندل شوی مخ
ووصف الطبيب دواء بسيطا، وقال إنه سيعود بعد ثلاثة أيام ليطمئن على صحة الطفل وعلى أثر الدواء، وعنيت أنا خلال هذه الأيام الثلاثة بتنفيذ أوامره في شأن الطفل بدقة أثارت إعجاب أمه ومسرة أبي، وكنت أنتظر اليوم الثالث بصبر نافد، وبخاصة لأنني رأيت الطفل قد زالت وعكته وعاودته الابتسامة البريئة الملائكية التي تجعل الأطفال جميعا أحباب الله، وتجعل هذا الطفل الجميل ملاكا يشع منه نور يسعد كل من حوله.
وجاء اليوم الثالث، وجاء الطبيب ورأى الطفل، وأبدى اغتباطه بشفائه، ولم تضن علي زوج أبي بشهادة طيبة؛ إذ قالت إنني أنا التي بذلت كل العناية في تنفيذ العلاج، وأدار الطبيب الشاب نظره إلي وقال: يظهر أن للآنسة غراما بالطب، أم أن حبها لأخيها وعاطفتها الرقيقة نحوه كانا أشد أثرا من الدواء في سرعة برئه، وأنا مع ذلك سأعود بعد أسبوع لأزداد اطمئنانا على صحته، فالأطفال في سن التسنين معرضون لوعكات لا خطر منها، ولكنها تزعجهم وتزعج أمهاتهم أحيانا.
وجعل الطبيب يعود الطفل بعد ذلك كل أسبوع، وجعلت أنا أزداد بهذا الأخ الصغير الجميل عناية، وله حبا، أفكانت عاطفة الأخوة وحدها مبعث هذه العناية؟ أم كان مبعثها فطرة الأمومة التي تتحرك في أحشاء كل شابة لمرأى طفل جميل ولاجتلاء ابتسامته ولاتصال جسمه بجسمها؟ أم ترى كان لهذا الطبيب وزياراته المتعاقبة أثر في هذه العناية؟ يصعب علي أن أبدي حتى اليوم رأيا في الأمر، ولعل هذه الدوافع جميعا كانت ذات أثر فيه، ولكن الذي أذكره أدق الذكر أنني برغم ما شعرت به نحو هذا الطبيب من جاذبية، وما كنت أجد في حديثه من متعة، كنت شديدة الحرص على ألا تبدر مني بادرة تكشف عما في نفسي، بل كنت أبدو أشد حرصا على أن أثير إعجابه وتقديره لعنايتي بأخي مني على أن أكشف له عن عواطفي.
فقد سمعت أن إحدى زميلاتي في المدرسة أحبت شابا نابها، وعرضت نفسها عليه ليتزوجها، فرغب عنها وخطب غيرها، فلما تمت الخطبة حاولت هذه الزميلة الانتحار، وإن كبريائي لتسمو بي عن أن أعرض نفسي على كائن من كان، بل إني لأشعر بأن الحب إذا انحدر بصاحبه - رجلا كان أو امرأة - إلى هذه المنزلة كان ضعفا يجب أن تتنزه عنه كل نفس مهذبة.
وقد استأثر أخي الطفل بقلب أمه وبعقلها وبكل وجودها، فلم تكن ترى في محيطها غيره، ولم تكن تسمع غير صوته، لقد كنت أراها جالسة إلى أبي يتحدث إليها وتستمع هي إليه، ثم أراها تندفع قائمة نحو غرفة الطفل تقول: إنه يبكي!
هذا ولم يكن أينا سمع بكاءه، وتجيء به وقد حملته إلى صدرها وقلبها، فإذا الدموع بالفعل في عينيه، وإذا هو حقا كان يبكي في صمت لا يسمعه إلا قلب الأم، ولم يكن أبي يسمع هذا البكاء الصامت، ولكنه لم يكن لذلك أقل إقبالا على الطفل وإعزازا له من أمه، كنت أرى هذا الرجل الرزين الحصيف يدخل إلى البيت وفي يده غير مرة في الأسبوع لعبة من لعب الأطفال ممن هم في مثل سن أخي، وكان يجد متاعا بل سعادة كلما رأى الطفل يبتسم، أو سمعه يضحك، وكان الوالدان يزدادان للطفل حبا كلما تقدم نموه، فلما استطاع أن يقف على قدميه ليمشي كانت حركاتهما لتشجيعه تثير الضحك، لكنني لم أضحك لأنني كنت أحب أخي كما كانا يحبانه، وكنت سعيدة كسعادتهما به.
وشغل «ولي العهد» خدم البيت كما شغل سادته، فلم تكن مربيته وحدها تلحظ حركاته وسكناته بعطف وعناية، بل كانت كل واحدة من الخدم تود لو استطاعت أن تخدم سيدها «البيه الصغير» لتسعد بهذه الخدمة، ولتنال بها حظوة عند أمه وأبيه وأخته، ولست أبالغ حين أذكر أن الكل كانوا يسعدون لعنايتهم بهذا الطفل البريء الذكي الجميل، وكانت أمه مع ذلك تخاف عليه من خياله، فإذا سقط على الأرض وهو يمشي أقامت الدنيا وأقعدتها، وإذا صاح لأن أحدا أخذ منه شيئا مخافة تلفه صاحت لصياحه، وأثارت في البيت ضجة كأن حادثا خطيرا حدث، ولم يكن أبي يلومها على شيء من ذلك أو يسدي إليها النصيحة لخير الطفل، بل كان يجاريها في غضبها ورضاها؛ لأنه كان لا يرى إلا بعينيها، ولا يسمع إلا بأذنيها، ولا يعرف في الحياة منطقا غير منطقها.
بدأت برغم حبي لأخي أضيق ذرعا بهذه المبالغات، وأشعر أنني أصبحت من رعاية أبي في المحل الثالث لا في المحل الثاني، وأن أخي وأمه مفضلان علي عنده، فازداد برمي بزوج أبي، وأحسست أن البيت على سعته يضيق بي، وكنت قد تجاوزت إذ ذاك السابعة عشرة من سني حياتي، وكانت صديقتي التي تعيش مع أبويها على مقربة من بيتنا قد خطبت إلى شاب موظف في الحكومة أثنى عليه أبي غير مرة أمامي.
قلت في نفسي: أولا يكتب لي الحظ ما كتب لها فأنتقل إلى بيتي أنا بدل أن أبقى حبيسة مع امرأة أبي؟! وتصورت يوما قريبا يكون لي فيه طفل كأخي أسبغ عليه من حبي ومن قلبي ومن عنايتي ورعايتي كل ما يحتويه قلب الأم من بر وحنان.
ساورتني هذه الأحلام واشتد أخذها بخناقي حين اشتدت لهفة زوج أبي على ابنها الطفل حتى جعلت تلومني على ما سمته عدم عنايتي به، وهي قد زادت في التثريب علي منذ رأتني عدت أستذكر دروسي على البيانو، وأقضي وقتا غير قليل أمامه، فقد كنت أهملت هذه المذاكرة شهورا عدة لفرط اشتغالي بأخي، فلما رأيت مخاوف أمه ولهفتها عليه، وتعلق أبيه به أخذت أعود إلى دروسي أتسلى بها عن هذا الشعور الذي استبد بي، وجعلني أشعر أنني صرت من رعاية أبي في المحل الثالث، ولئن حز هذا الشعور في نفسي لقد دعاني من بعد إلى أن أتساءل: ترى لو أن أمي لم تمت وأنجبت غلاما كما أنجبت زوج أبي، أكانت الرعاية الأبوية تنصرف إليه عني كما انصرفت إلى أخي من غير أمي؟ أم كنا نعيش أسرة واحدة يجري في عروقها دم واحد هو ماء الحياة الذي يمتصه جذع الشجرة ليبعث منه إلى فروعها البهاء والنماء والحيوية المترعرعة بمعاني النعمة والسعادة؟ فأين نحن الآن من هذا الوضع؟ إن الفرنسيين يعبرون عن الأخ أو الأخت لأب، وعن الأخ والأخت لأم أنه نصف أخ، أو أنها نصف أخت، وقد يكون لهذا التصنيف المادي ما يسوغه، ولكني أحسب أن للتعبير الفرنسي معنى أعمق من ذلك بكثير، معنى يتناول الجانب العاطفي في صلات الأسرة وأفرادها بعضهم ببعض، فصلة الأم بأبنائها صلة مباشرة، هم من دمها ولحمها، ومن قلبها وروحها، ومن أعماق وجودها، أما صلة الأب بالأبناء فصلة بالواسطة، والأم هي هذه الواسطة، فإذا كان له أبناء لأكثر من أم تأثرت عواطفه لأبناء كل أم بمبلغ ما بينه وبين الأم من مودة، وإن اختلف هذا الأثر في نفس أب عنه في نفس أب آخر، هذا إذا كانت الأمهات جميعا أحياء.
ناپیژندل شوی مخ
أما في مثل حالنا حين تكون أم حية وأخرى قد انتقلت إلى جوار الله، فذكرى المتوفاة تقوم في نفس الأب مقامها، وإن كان الحاضر أفعل أثرا من الغائب، وأبي كان يحب أمي أشد الحب، وهو اليوم يحب زوجه أشد الحب، ولا يستطيع الحاضر أن يحجب الماضي، وإن استطاع أن يتغلب عليه، ولطفولة أخي ولجمال أمه أثر في هذا الغلب.
ولعلي لو أتيح لي من الحظ ما أتيح لصديقتي التي تقيم مع أبويها قريبا منا فخطبت ثم تزوجت لاسترددت رعاية أبي كاملة، ولتخلصت من لوم زوجه إياي وتثريبها علي.
وفيما تساورني أحلامي عاودت الوعكة أخي ودعي الطبيب الشاب لعيادته، فلما رآني أخذ يسألني عنه، ثم يسألني عن نفسي، وكان هذا الطبيب هو الشاب الوحيد المثقف الذي أتيح لي أن أتحدث إليه غير الشباب من ذوي قرباي وأبناء أسرتي، ولم يكن واحد من هؤلاء يطمع في يدي؛ لأنهم كانوا ينظرون لأبي على أنه أكبر مقاما وأوسع ثروة وأعرض جاها من آبائهم جميعا، ولم أكن أشعر نحو أحد منهم بمحبة ولا بجاذبية خاصة؛ ولذلك كنت أتمنى لو أن هذا الطبيب خطبني إلى أبي، ولو أن أبي قبل هذه الخطبة وبشرني بها.
ومن يومئذ جعلت أخلق لنفسي منه تمثال المحبوب العزيز الذي أتمناه لنفسي، وكان أشد ما جذبني إليه ما تنم عنه نظراته من طيبة قلبه، ورقة شعوره، وهو قد بلغ من ذلك مبلغا غير مألوف، كان - برغم أنه طبيب - يتحدث عن مرض أخي والدمعة تترقرق في عينيه، وكان إذا قص على والدي نبأ من الأنباء بدا عليه التأثر لكل مصاب أو محزون، وكان إلى ذلك محبا للحياة ومتاعها، تبدو عليه آثار اليسار والنعمة. كانت السيارات في ذلك العهد مركبا نادرا، وكانت له مع ذلك سيارة أنيقة يسر العين مرآها، أما وذلك شأنه فلا بد أن يكون خلقه رضيا، وأن تكون الحياة معه حياة طمأنينة ونعمة وسعادة.
وجاء يوما يعود أخي، وكان والدي قد استدعي إلى العزبة على عجل، فلما أتم فحصه وبدأ يكتب تذكرة الدواء أخذ يتحدث إلي فيما يجب للعناية به، وقبل أن يتم حديثه نهض فنهضت معه وسرت إلى جانبه، وأخذ يكمل حديثه ونحن على السلم في طريقنا إلى الطابق الأرضي، وبعد عدة درجات هبطناها على السلم قال: اسمعي يا آنسة، إنني فكرت أن أخطبك إلى أبيك، لكنني رأيت ألا أفعل ما لم تكوني أنت موافقة على ذلك.
فألقيت ببصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلا، وقلت في شيء من الكبرياء: ليس ذلك شأني، ولكنه شأن أبي.
وكان تعليقه على عبارتي: يكفيني هذا منك، وأنا أشكرك أجزل الشكر.
وعدت مسرعة إلى غرفة أخي مخافة أن تظن أمه بي الظنون، وأخبرتها أن الطبيب ذكر أن ما به ليس إلا سوء هضم بسيط سرعان ما يزول أثره ، وبعد أن طمأنتها أويت إلى غرفتي، وجعلت أركز في ذهني ما سمعته عن خطبتي من أبي، وأخذت أسائل نفسي أأحسنت أم أسأت في إجابتي، وأمني نفسي الأماني للمستقبل، وأرقب عود أبي من العزبة بصبر نافد، أفلا يجب أن أذكر له ما حدث أول ما أراه؟ وهب الطبيب عدل فلم يخطبني إليه ولم يذكر شيئا! وأقمت زمنا أضرب أخماسا لأسداس، وأبني قصورا في الهواء، ولما جن الليل جفا النوم عيني وأنا بين الأمل الواسع الفسيح أقيم في قصوره بعد أن أنظمها على هواي، وبين الخوف أن يفلت مني هذا الأمل فلا أفوز منه بسراب.
وارتسمت أمامي صورة الطبيب الشاب كما أرادها خيالي، وشعرت لمرآها بأن قلبي ينبض بعاطفة كانت مستكنة فيه، وكان الحياء والكبرياء يأبيان عليها أن تبرز إلى الوجود، أما الآن وأنا في دثار من جنة الليل وحمايته فقد تجسم الحب في قلبي، وانتقل منه إلى وجداني، بل إلى حسي المادي، فشعرت كأني أضم هذه الصورة إلى صدري، وأرى في صاحبها ملاكي الحارس وحصني الأمين.
وعاد أبي من العزبة بعد أيام عاد الطبيب خلالها أخي ثم انصرف ولم يذكر لي شيئا عن اعتزامه خطبتي إلى نفسه، وإن حدثني في حضرة زوج أبي عما يجب للطفل - وقد زالت وعكته - من احتياط حتى لا تعاوده، وبعد أيام جاءت زوج أبي إلى غرفتي تقبلني وتهنئني بمفاتحة الطبيب أبي في أمر خطبتي، وتسألني عن رأيي، فألقيت بصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلا، وقلت: لا أرى إلا ما يراه أبي.
ناپیژندل شوی مخ
فقبلتني مرة أخرى وقالت: نعم الجواب يا حبيبتي، فهكذا يكون الأدب، وهذا ما كان ينتظره أبوك وما كنت أنتظره منك.
وفي الغد جاء الطبيب ومعه صديق له وقابلا والدي في السلاملك، فلما انصرفا جاء والدي فقبلني وأخبرني أنهم سيقرءون فاتحتي بعد غد.
وبعد غد جاء الطبيب ومعه أهله، واستقروا مع والدي في السلاملك، وقرءوا الفاتحة، وأديرت عليهم المرطبات، هنالك انطلقت ألسن الخدم بالزغاريد، وهنالك شعرت بأني خطوت خطوة واسعة نحو آمالي في حياة جديدة.
وأصبح خطيبي أكثر حرية في التحدث إلي حين زياراته إيانا، وشعرت بأن الحظ أسعدني بما لم أكن أسعد به لو أن أحدا غير هذا الطبيب قد خطبني، فلو أن ذلك حدث لما رأيت خطيبي إلا في فرجات النوافذ، ولما استمعت إلى صوته إلا إذا تسمعت من وراء الأبواب حين حديثه مع أبي، كان ذلك حكم الوقت على كل فتاة تخطب، أما وقد سعدت بما لم تسعد به غيري فقد أيقنت أن الحظ يبسم لي، وأن القدر سيعوضني عن فقد أمي عاطفة جديدة، تلك عاطفة الحب المتبادل.
وشغل أبي وشغلت معه بجهازي، وكانت زوج أبي تشاركنا الرأي في بعضه، وتكون صاحبة الرأي الأخير في أمر الحلي والثياب، وكانت فيما تقوم به من ذلك غير ضنينة ولا متلكئة، فلما أتممنا الجهاز أقيمت حفلة الزفاف، حفلة نادرة باهرة، وبدت زوج أبي ليلتها في أبهى حللها وأبدع زينتها، وقد تلألأ جمالها حتى كانت كأنها عروس الحفل، أما أنا فكنت أنتظر بصبر ذاهب نهاية الاحتفال؛ لأذهب مع زوجي إلى بيتي، ولأنسى في أحضانه متاعب الحياة.
وانتقلت معي إلى بيتي خادم كانت عندنا من عهد أمي، وكانت أمي قد وعدتها بأن تكون في خدمتي حين أتزوج، فلما اطمأننت في غرفة نومي، وآن لي أن أخلع ثيابي، وجاءت هذه الخادم تعاونني قالت في ابتسام: أسمعت يا سيدتي كلام السيدات في الفرح؟! أحسبك كنت مشغولة عن كل شيء بانتظار المجيء إلى هنا.
قلت: هذا صحيح، وماذا قلن؟
وأتمت الحديث بقولها: لقد أدهشتهن زينة سيدتي زوج أبيك حتى قالت إحداهن: لمن الفرح؟ أهو للبنت أم للست؟
وأجابت الأخرى: هو للبنت اغتباطا بذهابها إلى بيتها، وهو للست اغتباطا بتخلصها من بنت ضرتها واستقلالها بالبيت وسيده فلا يكون لها فيهما شريك.
وابتسمت لحديثها، ولم تلبث حين رأتني خلعت ثيابي أن غادرت الغرفة ليجيء إليها رب البيت، ليجيء إليها زوجي العزيز الحبيب الطبيب الشاب.
ناپیژندل شوی مخ
وبدخوله الغرفة بدأت سنوات هانئة سعيدة ليتها دامت!
الفصل الثالث
قضينا بدء حياتنا الزوجية سنوات هانئة سعيدة ليتها دامت ، ولقد طالما بحثت عن السبب فيما طرأ عليها من بعد، أنا أعلم أن كثيرين يتهمونني بأني السبب، وأنه لولاي لبقينا فيما كنا فيه من نعمة وطمأنينة، ولكني لا أقر هذا القول ولا أرضاه، بل أحسبني كنت ضحية أكثر مما كنت مسئولة عما حدث، ولست أريد بتدوين هذه القصة أن أدافع عن نفسي، وحسبي أن أسوق الحوادث كما وقعت، وأدع من تقع عينه يوما على هذه القصة أن يحكم لي أو علي.
ولا أريد بتبرئة نفسي أن أتهم زوجي بأنه هو وحده سبب ما أصابنا، ولو أنني فعلت لكنت ظالمة، وإن كنت لا أستطيع أن أبرئه براءة كاملة، مع الاعتراف من جانبي بأنه لم يقصد إلى غرض سيئ، بل لعل طيبته وبالغ عطفه يحملانه من التبعة أكثر مما كان يحمل لو أنه كان أكثر قصدا فيهما.
لقد بدأنا حياتنا الزوجية حبيبين سعيدين، كان كل ما حولنا يبسم لنا، ويشدو لنا بأنغام السعادة، كنا نخرج تحت جنح الظلام في سيارته، وكان هو يقودها، مرة إلى سفح الهرم، وأخرى إلى القناطر الخيرية، وثالثة إلى المعادي، ورابعة إلى عزبة والدي، فلم أكن أرى في الطريق - إلى أي من هذه الأماكن الخلوية - إلا السعادة يحملها الهواء معه إلى قلبي وروحي، وكنت لا أشعر حين عودتنا من هذه الجولات بشيء غير عبير الحب يحمله النسيم على أجنحته، ويدخل به وإيانا إلى عشنا الصغير الجميل، وكان زوجي الشاب الرقيق العزيز يتمنى لو استطعنا أن نسافر إلى أوروبا نمضي في ربوع سويسرا أو النمسا شهر العسل، لولا أن كانت الحرب العالمية الأولى تحول بيننا وبين تحقيق هذه الأمنية الساحرة البديعة، وقد استعضنا عن هذا السفر بالمقام زمنا في ذهبية لأحد أصدقاء أبي، فكنت أحس إذ أنظر إلى ماء النيل من نوافذها وكأنه يحمل في تياره أريج الصبا ونسيمه العليل.
وكان زوجي يغيب عني ساعات كل يوم في عمله، فكنت أشعر بأني من انتظاره على لظى، لا يبرد سعيرها إلا أريج يحمل الحب شذاه آتيا من ناحية عيادته، فإذا عاد إلى عشنا وتعانقنا شعرت كأنني ذبت في هذا العناق خلاله وأصبحت حبة قلبه، وكان هو من جانبه يبادلني حبا بحب، وهياما بهيام، كان كل تفكيره متى فرغ من عمله كيف يزيدني سعادة وهناءة، فإذا جلس إلى جانبي، وألقيت برأسي على صدره شعرت من نبضات قلبه بطمأنينة إلى الحياة تنقلني من هذا العالم الذي يضطرب فيه الناس، جريا وراء أهوائهم ومنافعهم إلى عالم من الأحلام مفروشة أرضه بالورد، معطر هواؤه بشذا الحب وأنغام الهوى والغرام، أين أنا الآن مما كنت فيه منذ توفيت أمي؟!
بل أين أنا الآن مما كنت منذ ولدت؟! إنني سعيدة سعيدة سعيدة، سعيدة بما لا تعبر عنه الألفاظ، بل لا تعبر عنه الموسيقى، وكأني أتقلب من عالم الناس في نعيم جنة الخلد، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وما يحملني على أجنحة من الخيال إلى عالم السعداء والراضين، عالم المحبين الذي يستمتعون بنعمة الحب إلى غاية حدود المتاع.
انقضى العام الأول من حياتنا الزوجية وأنا في هذا البحر اللجي من فيض السعادة، وكنت في أثناء ذلك لا أخالط غير زوجي من الرجال إلا أبي والأقربين من محارمي، فلم يكن يباح للمرأة من طبقتنا يومئذ أن تتحدث إلى غير هؤلاء من الرجال، أما النساء فكانت تزورني منهن بعض زميلاتي وصديقات صباي وحبيبات أمي، وكانت زوج أبي تزورني أحيانا بطبيعة الحال، وكنت أنقل كل حديث يجري بيني وبينهن، أو بيني وبين أبي ومحارمي، إلى زوجي العزيز، وكنت أشعر بالغبطة حين أراه مسرورا لسماع هذا القصص الساذج؛ لأني كنت مصدره، ولم يكن يخفي ذلك علي، بل كثيرا ما كان يقول لي إذا أنا فرغت من رواية أقاصيصي: تحدثي، تحدثي، إن نغمات صوتك تشجيني، ونظراتك إلي في أثناء الحديث تنفذ إلى قلبي، وتبعث إلى وجودي كله النشوة والطرب.
وكنت أعلم أن في نظراتي جاذبية طالما سحرت بها وأنا أنظر إلى نفسي في المرآة، جاذبية لا ترجع إلى جمال عيني، بل إلى قوة التعبير التي تنبعث من هذه النظرات، ولم أكن أحسب أن هذه الجاذبية قديرة على أن تسحر غيري كما كانت تسحرني، وكنت أشعر كذلك أن لصوتي حين أتحدث سلطانا لا يقل عن سلطان نظراتي، وكنت قد ورثت نغمة صوتي عن المرحومة أمي، كما ورثت لباقة حديثي وقوة تعبيره عن عواطفي ومقاصدي عن أبي، ولا شك في أن قراءاتي الكثيرة في الكتب العربية والأجنبية قد أعانت هذه الوراثة، وبلغت بي إلى هذه المقدرة التي كان يعجب بها زوجي، على أنني لم أقدر سلطان هذه الملكات على غيري لأول ما حدثني زوجي عنها، بل حسبت أن حبنا المتبادل هو الذي يوحي إليه إطراءه، فلما رأيته يكرر الإطراء في مناسبات شتى أخذت أعتد بهذه الملكات وأعنى بتنمية غراسها، فعدت إلى مرآتي أدرس فيها سلطان نظراتي، وعدت إلى كتبي أقرؤها حين غياب زوجي في عمله وفراغي من تدبير المنزل، وكنت أقرأ بصوت مسموع ما يعجبني وما يزيده حسن الإلقاء أثرا في النفس، فإذا جاءت صديقاتي والأقربون من ذوي رحمي لزيارتي، أخذت أتحسس أثر مواهبي فيهم، وسلطان نظراتي وعباراتي عليهم.
ومن يومئذ آمنت حقا بأن من البيان لسحرا، فقد كان الذين يزورونني يبالغون في إعجابهم، بحسن إنصاتهم لحديثي واستزادتهم منه؛ مما جعلني أنا كذلك ألذ بالإصغاء لصوتي والاستماع لحديثي حين متاع الآخرين به، وكنت أحرص على ملاحظة أثره في نفوسهم، وبخاصة حين كنت أصور لهم ما تركه حادث في نفسي من مسرة أو ألم، من رضا أو غضب، من غبطة بالجمال أو تقزز من القبح، فإذا شاركوني في إحساسي، ولمحت على وجوههم أمارات هذه المشاركة، اطمأننت وازددت رضا عن نفسي وإيمانا بسلطاني.
ناپیژندل شوی مخ