فقال: والله العظيم الرحمن الرحيم ما أدري ما يقو الوزير ولا أفهمه ولا عندي علم منه، فلا تجعل لي ذنبًا تبعدني به! فقال: يلك أحقًا تقول؟ فحلف بالله تعالى وبالطلاق على صحة قوله وبطلان ما ظن فيه، فاستطرف أبو سعد لك استطرافًا شديدًا، واستغربه كثيرًا، وكان يحدث به دائمًا.
٢٣ - ولما قصد المتنبي عضد الدولة أبا شجع بن بويه بفارس ممتدحًا له جلس له ووصله، فأول ما بدأ بإنشاده:
أوه بديلٌ من قولتي وسها ... لمنْ نأتْ والبديلُ ذكراها
فقال عضد الدولة أوه! وطعنه وتطير من ابتدأئه.
٢٤ - وحكى الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبد قال: ذكر يومًا أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد الشعر فقال يحتاج الشاعر إلى حسن المطالع ورونق المقاطع، فإن فلانًا أنشدني في يوم نوروز قصيدة من كلامه أولها: "بقبر وما .. " فتطيرت من افتتاحه بذكر القبر، فتنغصت باليوم والشعر، فقلت له: كذا وكانت حالة أبي مقاتل مع الداعي لما امتدحه بقوله:
لا تقل بشرى ولكنْ بشريان ... غرَّة الداعي ويوم المهرجان
فإنه نفر من قوله "لا تقل بشرى" أشد نفار، وقال: أعمى ويبتدئ بهذا القول في مثل هذا اليوم!
٢٥ - وأنشد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد عضد الدولة رقصيدة مدحه بها، فلما انتهى إلى قوله:
ضممتَ على أبناء تغلب تاءها ... وتغلب ما كرَّ الجديدان تغلبُ
فتطير عضد الدولة من قوله (تغلب) وقال: نعوذ بالله وتيقظ الصاحب لهفوته فامتقع لونه، ولم يظهر تهيأ لما كان معه.
٢٦ - وأضاف تغلبي طائيًا، فلما قدم إليه طعامه أنشد الطائي بيت جرير في الأخطل:
والتغلبي إذا تنحنحَ للقِرى ... حكَّ أستهُ وتمثَّلَ الأمثالا
واسترجع الطائي وعلم أنه على طعام، وفي ضيافة تغلبي، فرجع عن الطعام، فقال له التغلبي: عاود كعامك فإنما قلت ما قيل! قال: لا والله فإني استحيي أن أضع طعامك بحيث سمعتَ منه ما كرهتَ! ورحل عنه خجلًا عجلًا!.
٢٧ - ونزل أبو عبد الله بن الجصاص الجوهري يومًا مع الخاقاني الوزير في زبزبه، وفي يده بطيخة (فيها) كافور، فأراد أن يعطيها الوزير يبصق في دجلة، فبصق في وجه الوزير ورمى بالبطيخة في دجلة، فارتاع الوزير واشتغل بغسل وجهه مما أصابه، وانزعج ابن الجصاص وتحير لما شاهده من سوء فعلة وشدة تخلفه، فقال: والله العظيم أيها الوزير لقد أخطأت وغلطت، أردت أن أبصق في وجهك وأرمي بالبطيخة في دجلة! فقال: له الوزير: كذاك فعلت يا جاهل! فغلط في الفعل وأخطأ في الاعتذار.
٢٨ - ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال: اسقوه ماء، فقال: شراب الحمار، وهو عنده كثير! قال: أسقوه لبنًا، قال: عن اللبن فطمت! قال: فأسقوه عسلًا، قال: شراب المريض! قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد خمرًا يا أمير المؤمنين، قال: ويلك أعهدتني أسقي الخمر لا أم لك، لولا حرمتك بنا لفعلت بك وعلت، فخرج فلقي فراشًا لعبد الملك، فقال له: ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني، وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فسقاه رطلًا، فقال: أعد لي آخر، فسقاه آخر، فقال له: تركتهما يعتركان في بطني، اسقني ثالثًا فسقاه ثالثًا، فقال: تركتني أمشي على واحدة أعدل ميلي برابع، فسقاه رابعًا، ودخل على عبد الملك فقال:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
فقال له عبد الملك: لا بل منك، فتطير من قوله، وعلم الأخطل خطأه فراجع وأنشد:
خفَّ القطينُ فراحوا اليومَ أو بكروا
ومر في القصيدة فلما بلغ إلى قوله:
شمسُ العداوةِ حتَّى يستقاد لهمْ ... وأعظمُ الناسِ أحلامًا إذا قدروا
فقال عبد الملك: يا غلام خذ بيده فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما تغمره به، ففعل.
٢٩ - وذكر إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت يومًا على الواثق وهو مصطبح فقال: غني يا إسحق صوتًا غريبًا لم أسمعه منك حتى أكون عليه بقية يومي مسرورًا، فكأن الله أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت:
يا دارُ إن كان البلى قد محاكْ ... فإنَّه يعجبني أنْ أراكْ
أبكي الذي قدْ كان لي مألفًا ... فيكَ فآتي الدارَ من أجلِ ذاكْ
قال: فتبينت الكراهة في وجهه، وندمت على ما فرط مني، وتجلدت، وشرب رطلًا كان في يده، وعدلت عن الصوت إلى غيره، وكان والله ذلك اليوم آخر جلوسي معه.
1 / 6