١٥٧ - وحدث القاضي أبو القاسم التنوخي أن بعض المعمرين من الشهود بالأهواز حدثه عن بعض أهله قال: كان محمد بن منصور يتقلد القضاء بكور الأهواز وعمر بن فرج الرخجي يتقلد الخراج بها، وكانا يتوازيان في المرتبة السلطانية، ولا يركب أحدهما إلى الآخر إلا بعد أن يجيئه، ويتشاحنان على التعظيم، وترد كتب الخليفة عليهما بخطاب واحد، وتولدت بينهما من ذلك عداوة عظيمة، ويكتب الرخجي إلى المتوكل في القاضي فلا يلتفت المتوكل إليه لعظم محله عنده وموضعه منه، ويبلغ القاضي ذلك فلا يحفل به .. فلما كان في بعض الأوقات ورد خادم بكتاب المتوكل لهما بأن يجتمعا على أمر رسمه لهما، فقال الرخجي للقاضي: تحضر الديوان لذلك، وقال القاضي له: بل تحضر أنت الجامع لنجمع على ما رسم، فقال الرخجي للخادم: ترجع إلى أمير المؤمنين وتعلمه أن القاضي امتنع من أن يحضر ديوانه، وسامني الحضور إلى الجامع لإمضاء أمر أمير المؤمنين فلم أفعل، لما فيه من القباحة والوهن، وأن العرض وقف إلى أن يعود الأمر بما يفعل فيمتثل! فبلغ القاضي ذلك فركب إلى الديوان، ودخل والرخجي جالس في دسته، وبين يديه الكتاب والجلة، فحين شاهدوا القاضي قاموا له وخدموه، إلا الرخجي فإنه لم يكلمه ولا سلم القاضي عليه، وجلس في طرف المجلس وآخر البساط، بعد أن رفع غلامه طي البساط، وجلس على البارية، واحتف به شهوده، وجاء الخادم فجلس عنده ووقفه على كتاب المتوكل، وتخاطبا فيما رسم، حتى فرغوا منه، فلما انقضى ذلك قال الرخجي له: يا أبا جعفر ما هذه الجبرية! لا تزال تولع بي وتتحكك بمناقرتي ومضاهاتي، وتقدر أنك عند الخليفة أطال الله بقاءه مثلي، أو محلك يوازي محلي! قال: وأسرف في هذا القول، وحمي في الخطاب، ومضى على رأسه في الكلامُ والقاضي ساكت، إلى أن قال في جملة كلامه وبحدة طبعه: والخليفة أعزه الله لا يصرف على يدي في أمواله التي بها مقام دولته، ولقد أخذت من ماله ألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار فما سألني عنها، وإنما إليك أن تحلف منكرا لحق، وأن تفرض لامرأة على زوجها، وأن تحبس ممتنعا من أداء حق ... وأخذ يعدد هذا وشبهه، وأبو جعفر لما ذكر الرخجي يعد بأصابعه الألف الألف التي كررها، وقد كشفها للناس ليروها إلى أن عقد خمسة، فلما أمسك الرخجي لم يجبه القاضي بشيء، وقال: يا فلان الوكيل، قال: سمعت ما جرى؟ قال: نعم، قال: قد وكلناك لأمير المؤمنين وللمسلمين على هذا الرجل في المطالبة لهم بهذا المال الذي أقر به، فقال الوكيل: إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال للمسلمين فعل! فأخذ القاضي دواة وكتب بخطه في مربعه سجلا بالمال ورمى به إلى الشهود وقال: اشهدوا على إنفاذي الحكم بما في هذا الكتاب، وإلزامي فلان بن فلان هذا وأومأ إلى الرخجي ما أقر به عندي من المال المذكور مبلغه في هذا الكتاب للمسلمين! فكتب الشهود خطوطهم بالشهادة وختموها، وأخذها القاضي فجعلها في كمه، ونهض، وأخذ الرخجي يهزأ بالقاضي ويقول: يا أبا جعفر بالغت في عقوبتي، قتلتني، أهلكتني! فقال له القاضي: إي والله! فما سمعناه أجابه بغيرها وافترقا.
1 / 38