ولم يزل يكررها، فقويت نفسي وزال شغل قلبي، ودخلت الرقة، فما أقمت بها أيامًا حتى ورود علي كتاب المتوكل بالخروج إلى الشام للتعديل، وأجرى علي مائتي ألف درهم، ويقول: إنَّ هذا ش كان المأمون نهض فيه بنفسه لجلالته وعظم خطره، وأنه قد رآني أهلًا له! فخرجت من الرقة إلى الشام، ورأيت كل ما أحببت، حتى لو بذلت لي العراق بأسرها عوض ذاك لما طبت نفسًا!
١٠٨ - وقال أبو علي القنائي: حدثن جدي قال: بكرت يومًا إلى موسى بن عبد الملك، وحضر داود بن الجراح فوقف إلى جانبي فقال: كان لي أمس خبر طريف: انصرفت من ها هنا فوجدت في منزلي امرأة من شرائف النسا، فشكت موسى بن عبد الملك إلى وقالت: قد حاول أن يأخذ ضيعتي الفلانية، وأنت تعلم أنها عمدتي في معيشتي، وأن في عنقي صبية أيتامًا، فأي شي تدبر في أمري: أبيعها له وأصبر على أذاه إلى أن يفرج الله تعالى منه؟ فقلت لها: أما التدبير في أمرك فما لي حيلة، وأما المشورة فقد قال النبطي: "لا تبع أرضك لأجل الشرير الردي، فإنه يموت والأرض تبقي" فدعت لي وانصرفت، واتفق لي وهي تحدثني بذاك أن موسى وراء الباب الذي نحن قعود عليه، فسمع الحديث، ثم خرج وقال لداود: يا أبا سليمان، لا تبع أرضك من أجل الشرير الرديء فإنه يموت والأرض تبقى؟ ومشى ومشينا وراءه فقال لي داود: هذا والله هو اتفاق الهلاك! إلى أين أهرب! أين أقصد؟ كيف أتخلص؟ أفكر لي وأشر علي قبل أن تنفد طريقنا وقبل نزولنا معه إلى الديوان!.
فقلت: والله ما أدري! فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم! اكفني شره وضره فإنك عالم بقصتي وأني ما زلت إلا الخير! واشتد قلقه وكثر بكاؤه ودعاؤه، وقربنا ن الديوان، فقال موسى: متى حدث هذا الجبل الأسود في طريقنا!! ومال عن سرجه حتى سقط وأسكت، فحمل إلى منزله وكان آخر العهد به.
١٠٩ - وكتب عامل للمنصور وعلى فلسطين يذكر أن بعض أهلها وثب عليه، واستغوى جماعة منهم، وعاث في العمل، فكتب إليه المنصور: "دمك ومرتهن به إن لم تنفذه إليَّ! " فصمد له العامل حتى أخذه، ووجه به إليه، فلما مثل بين يديه قال له: أنت المتوثب على عاملنا! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه عظمك .. وكان شيخًا كبيرًا ضئيل الصوت، فقال:
أتروض عرسكَ بعدما هرمتْ ... ومن العناء رياضةُ الهرمِ
فلم يفهم المنصور جوابه، وقال للربيع: ما قال؟ فقال الربيع: قال:
العبدُ عبدكمُ والمالُ مالكمُ ... فهل عذابك عني اليومَ مصروف
فقال: يا ربيع قد عفوت عنه، فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن غليه، قال الربيع: ولما خرج الرجل قصدني وخدمني، فشرحت له القصة، وكاد يموت فرقًا.
١١٠ - وحكى أن عبيد الله بن زياد لما ربني البصرة داره البيضاء بعد قتل الحسين بن علي ﵉ صور على بابها رؤوسًا مقطعة، وفي دهليزها أسدًا وكبشًا وكلبًا، وقال تفاؤلًا: أسد كالح وكبش ناطح وكلب نابح، فمر بالباب إعرابي فقال: أما إن صاحب هذه الدار لا يسكنها إلا ليلة واحدة! فرفع الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأمر بالأعرابي فضرب وحبس، فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى قيس ابن السكن، ووجوه أهل البصرة لفي أخذ البيعة له، ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه، وراسل بعضهم بعضًا في الوثوب على عبيد الله من ليلتهم، فأنذره قوم منهم، وهرب في ليلته تلك التي انتقل إلى الدار في يومها، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين تميم بسببه، حتى أخرجوه فألحقوا بالشام، وكسر الحبس، وأخرج الإعرابي ولم يعد ابن زياد إلى البصرة، وقتل في وقعة الخازر.
1 / 22