فقال الرجل برجاء: النسيان هو الموت. - مد الله في عمرك.
ولم تكن لديه نية لزيارته، ولا هو جاء لتوديعه بدافع حقيقي من عواطفه ولكن خوفا من أن يتهم بالجحود؛ ولذلك كربه ضميره وورعه الديني، ومضى في طريقه لا يرى شيئا، ورغما عنه تركز تفكيره في الدرجة الخامسة التي ستخلو بعد أيام.
وكانت مكانته قد تدعمت لدى مدير الإدارة فلم تعترض سبيله عقبة ذات وزن.
ورقي إلى الدرجة الخامسة في نفس الشهر مع نقله رئيسا للمحفوظات.
16
هبة قيمة تتخلق في الفراغ المشحون بالصبر. الوثبة الجديدة وثبة حقيقية، وامتيازها الخطير أن رئيس المحفوظات يعرض بنفسه الخطابات الهامة على حضرة صاحب السعادة المدير العام ليتلقى توجيهاته وينفذها في سرية تامة. رضي الله عنه أخيرا ففتح له الباب العالي الموصل إلى الحضرة الإدارية العليا. وهي فرصة سلطانية تطالبه باستغلال جميع ما تمرس به من خبرة وثقافة ولباقة وإخلاص. ها هي الحجرة المترامية كميدان التي يحلم بأن يحكم منها ذات يوم. الحلم الذي يجب أن يتحقق ولو ضحى على مذبحه بجميع القرابين، الحلم المضنون به على غير أهله من الأكفاء الذين يشترونه بمسرات الدنيا الرخيصة العابرة.
وتفحص الحجرة بعناية بطولها الطويل وعرضها العريض، سقفها الأبيض الأملس، ونجفتها الكرستال، وجدرانها المورقة، مدفأتها الموشاة بالقرميد، بساطها الأزرق الذي لم يتخيل إمكان وجود بساط في طوله وعرضه، وطاولة الاجتماعات ذات الغطاء الأخضر، والمكتب المتصدر بأرجله الغليظة الملتوية وسطحه البلوري، وتحفه الفضية من وراقات ومحابر وأقلام وساعة وسومان ونافضة وعلبة خشبية للسجائر من خان الخليلي.
وتهيأت فرصة لاستراق النظر إلى المدير السعيد وهو مستقر فوق مقعده الكبير، يطالعه بعينين داكنتين حادتين ووجه حليق، وطربوش غامق الاحمرار، ورائحته الزكية، وشاربه الأسود المتوسط الطول والارتفاع، وهالة الصحة التي تطوقه، وبدانته المتوسطة وإن لم يعرف على وجه الدقة طوله، وتحفظه الراسي المهيب الذي يجعل من صداقته مطلبا عزيز المنال.
ها هو يقف في حضرته، في متناول أنفاسه، في مجال رائحته الزكية، يكاد يسمع نبضه، ويقرأ أفكاره، ويستلهم رغائبه، وينفذ - قبل البوح - أوامره، ويقرأ المستقبل على ضوء ابتساماته، وقرة عين حلمه الأبدي أن يجلس ذات يوم مكانه.
انحنى بأدب وورع وقال: صبحك الله بالسعادة يا صاحب السعادة.
ناپیژندل شوی مخ