لا أحد يستطيع أن يسبر غور هؤلاء الناس، تلك القبيلة ذات الملامح المتشابهة التي هبطت ذات زمان بعيد إلى وادي النيل، وآلت على نفسها ألا تتحرك من مكانها أو تتفتت، القبيلة التي تعلمت أن تحني رأسها لعاصفة الغزاة ثم تمضغهم على مهل، القبيلة التي تسكن واديا مفتحا من كل الجهات تستطيع بأي جيش صغير أن تغزوه، والمشكلة ليست في الغزو أبدا، المشكلة ما يحدث بعد الغزو.
وأتحدى التاريخ أن يثبت أن غازيا دخل هذه البلاد واستطاع أن يغادرها سالما، لديهم آلة عجيبة، هؤلاء الفلاحون، يستعملونها لطحن الحبوب، حجر كبير يدور فوق حجر كبير ويوضع الحب من فوق سليما ليخرج من بين الحجرين أنعم من الدقيق.
لقد وجدنا الأتراك هنا قد أصبحوا دقيقا من أزمنة طويلة مضت، وكان المماليك في طريقهم إلى نفس المصير، لست أدري أين تكمن قوتهم، ولا كيف تتم تلك العملية؟! ولكن المؤكد أنها تتم.
وقصة حامد، لا أقول: إنها توضح ما أريد، ولكن فسرها إن كنت تستطيع، لقد جئت هذه البلاد عدوا، ولن أخدع نفسي وأقول - مثلما يقولون كلهم هنا - إنني جئت لأحرر المصريين من المماليك، جئت عدوا يا صديقي، جئنا كلنا عدوا قويا مسلحا بأحدث ما وصلت إليه أوروبا من مخترعات وآلات دمار، جئنا غزاة قادرين، فإذا بنا اليوم في ورطة، وإذا بمشكلتنا هي كيف ننتزع أرجلنا لننجو بأنفسنا من طمي هذا البلد وأناسه الذي نحس بأنفسنا نغوص فيهم ونختفي.
ولا أزعم أني سأحسن الحديث عنهم، فليس في استطاعتي أن أفعل شيئا كهذا، سأحدثك فقط عن حامد؛ فمنذ شهور كثيرة وهو الموضوع المفضل للحديث بيننا حين نملك الحديث، ويكفي أن تعلم أن القيادة قد أصدرت أمرا غير مكتوب بمنع الحديث عنه.
وحامد هذا ليس زعيما من زعماء المصريين، بل إنه إلى شهور قليلة لم يكن أحد يهتم بحامد هذا أو يقيم له وزنا، فقد كان أحد فلاحي قرية شطانوف الواقعة بين فرعي النيل، وأظنك لا يمكن أن تعتقد أن اسم شطانوف هذا اسم فرنسي، ولكنه كذلك، فالقرية كان اسمها في الأصل كفر شندي وكان بجوارها قلعة قديمة من قلاع المماليك، وحين غزونا الدلتا، وطردنا المماليك، هدمنا القلعة القديمة وبنينا أخرى جديدة بخامات محلية وأسميناها شاتو نيف (أي القلعة الجديدة)، وكذلك غيرنا اسم البلد وسميناه باسم القلعة، ولا تحسبني أسخر حين أقول إن هذا كل ما صارت إليه رسالتنا تجاه بلاد أفريقيا المظلمة، أن نغير اسما باسم، ولكن الفلاحين غيروا فيما غيرنا، بطريقتهم الخاصة، فأطلقوا على القرية اسم شطانوف بدلا من شاتو نيف!
حامد كان من فلاحي هذه القرية الذين يزرعون الأرض، ويصلون لله في الجامع، وظل هكذا إلى أن جاءت قواتنا وعسكرت في القلعة الجديدة، وكانت القوات بقيادة الكولونيل بيلو الذي عانقته وأنت تودعني في مارسيليا، أتذكر؟ والقلعة كانت بالغة الأهمية إذ كانت نقطة ارتكازنا الرئيسية في الدلتا كلها، وكانت في الوقت نفسه قاعدة تخرج منها الدوريات لتفتيش المنطقة بانتظام.
وكانت سياسية بيلو منذ أن حل في القلعة أن نتجنب مضايقة الفلاحين أو التحرش بهم حفظا لسلامة القاعدة، وليس لأننا أصدقاء المصريين، كما كان يحاول الرجل الطيب أن يفهم الفلاحين، ليس هذا فقط، بل كانت سياسة الجيش عامة أن يحاول التقرب من الوطنيين ويوطد علاقته بهم.
ولم نستفد شيئا من إقامة أمثال هذه العلاقات؛ إذ كلما حاولنا أن نتقرب منهم ازدادوا نفورا، وكلما حاولنا إفهامهم أننا أنقذناهم من ظلم المماليك نظروا إلينا طويلا وكادت نظراتهم تقول: جئتم لتنقذونا من المماليك، وجاء المماليك لإنقاذنا من الأتراك، وجاء الأتراك لإنقاذنا من التتر، وجاء التتر لإنقاذنا من الخليفة ، وجاء الخليفة لإنقاذنا من البطالسة، وجاء البطالسة لإنقاذنا من الإغريق ... لماذا تخصونا بشهامتكم أيها السادة؟!
وما أقسى نظرات هؤلاء المصريين حين يوجهونها إلى عدو غريب، إنهم، بينهم وبين أنفسهم، يعاملون بعضهم كالديوك، طول النهار لا يتحدثون إلا شتائم، هناك أكثر من مائة لقب للأب تبدأ من المركوب وتمر بكل ما يلبس في الأقدام، وتغطي المملكة الحيوانية حتى الخنزير، وأي مكان في جسد الأم ممكن أن يصبح مادة للشتائم شعب ثروة شتائمه لا تجدها عند أي شعب آخر، ولا يتكلمون إلا زعيقا ومع هذا فليجسر غريب، أي غريب، ويحاول أن يلمس أحدهم، ما إن يحدث هذا حتى تحدث المعجزة، وإذا بهم يواجهونه وقد نسوا كل ما كان بينهم من شتائم وخلافات.
ناپیژندل شوی مخ