ورحت أعجب كيف لم أفطن إلى تلك الحقيقة البسيطة الواضحة وضوح الشمس من قبل؟! صحيح كيف لم أفطن إليها؟! ووقفت طويلا أتأمل هذه النقطة وأعذر أهل بلدنا الذين كنت أتهمهم بالعبط؛ لأنهم لم يحاولوا أبدا أن يتساءلوا عن سر السلطان حامد، أحيانا يكون من الصعب بل المستحيل أن نفكر في أشياء تعودنا أن لا نفكر فيها، وتعودنا أن نأخذها كما هي، فتعذيب الحيوانات حرام أما ذبحها فحلال، والمرأة تطلق شعرها والرجل يحلق شعره، ولا تعامل الحافي بمثل ما تعامل به راكب العربة مع أن كليهما إنسان، وأن يبدأ الواحد في مراجعة إيمانه بالقضايا المسلم بها مسألة صعبة، بل تكاد تكون مستحيلة.
4
واعتقدت أنه لن يدلني على حل هذا اللغز إلا الأحمدي أفندي، فهو يعرف كل شيء عن كل شيء، ولا بد أن يكون لديه تفسير لحكاية السلطان الذي له مقام، مع أنه ليس من أولياء الله، كان الأحمدي أفندي أول من لبس البدلة والطربوش في بلدنا، وأول من ركب القطار وسافر إلى القاهرة، وأول أفندي لم يعمل في الحكومة وأشتغل رأسا في البنوك والشركات، وكان قد تعدى الثمانين وترك العمل نهائيا، وأقام في البلد على حس أفدنته القليلة، وكنا كثيرا ما نصادفه سائرا في البلدة بقامة معتدلة لا اعوجاج فيها ولا انحناء وقد استبدل بالبدلة جلبابا أبيض نظيفا له جيب على الصدر، ولكنه لم يتنازل عن الطربوش ولا عن ساعته ذات الكتينة التي تمتد من عروة الجلباب وتنتهي في جيب الصدر.
وكنا نحن الصبية والأولاد إذا ما صادفناه مارا ننتحي جانبا تأدبا ولا نجرؤ على النظر في وجهه إلا من بعيد، وجه قد اكتسى من طول ارتداء البدلة والطربوش ملامح جادة متزنة، وشارب دقيق معتنى بكل شعرة فيه، وفم مطبق لا ينفك، وأصداغ غائرة لا تسندها أسنان، وكل شيء فيه جاد، كلامه جد، وزعيقه جد، وهزله جد أيضا، ولم يكن يضحك إلا إذا تحدث مع العمدة.
وكانت جرأة كبيرة مني أن أذهب وأسأله، فلا يليق بمثلي أن يخاطب الأفندية كبار السن من أمثاله، تلك قضية أخرى مسلم بها في بلدنا.
وانحنى الأحمدي أفندي ليضع أذنه ذات السمع الذي بدأ يثقل بجوار فمي الذي كان يتكلم في تردد ولعثمة وخفوت.
وكلما ألقيت عليه السؤال قال: «إيه؟ بتقول إيه؟»
فأعيد السؤال.
وأخيرا أدركت أنه سمعني، فقد اعتدل في وقفته، وأمسك بعصاه ذات العقفة بعناية، وحدق في بعينيه الضيقتين الغامقتين اللتين لو كانتا عيني لما استطعت أن أرى بهما أبدا، واشتد ارتباكي.
ولم أنظر إلى غير كتينة ساعته التي أدركت أنها بفرعين وأن بينهما حلية ذات بلورة خضراء.
ناپیژندل شوی مخ