أما ابنه غريب فرجال العزبة كانوا لا يرتاحون إليه، وكذلك نساؤها، فقد كان ولدا قليل الأدب، فارغ العين، يربي قصة من شعره ويظهرها مسبسبة من طاقيته الصوف البيضاء، وسبب ضيق الناس به أنه كان يغوي النساء، والأدهى من هذا أنه كان ينجح في الإيقاع بهن، وفي هذا لم يكن يحترم جارا ولا زوجة خال، كان أسمر فاتح السمرة، وبالرغم من قبح خلقة أبيه كان وسيما، لا تمل العين رؤية ملامحه، وله طريقة لذيذة في نطق الكلام، مع أنه كان قليل الكلام، كان صوته يخرج غليظا بريئا فرحان، وكأنما هو مراهق حديث البلوغ، ولم يكن يبدو أهبل كمعظم شباب الأرياف، كان ولدا حدقا معتدا بنفسه، سريع الفهم، فهلويا نظيف الجلباب، يعمل كالمكنة طول النهار، ويغني المواويل، وعنده عدة شاي، ويعزم ويشدد في العزومة، فإذا جاء الليل لا يحتمل المبيت في دارهم ويؤثر النوم فوق كومة تبن الوسية العالية حيث يدفن نفسه، ويظل يتلمس أفخاذه وصدره ويحكي لأصدقائه الذين يبيتون معه، يحكي لهم عن أمور النساء التي هم أجهل الجهال بها، والذي هو فيها صاحب الباع الطويل، وكان جريئا لا يخجل وعينه فارغة، أول ما ينظر إلى المرأة يبدأ بالنظر إلى سيقانها، ونظراته كانت تربك، ففيها لمعة سخرية دائمة، أو لعلها ضحكة لم تنطلق، كانت نظراته هكذا رغما عنه، وليس له يد فيها، ولكن المرأة كانت تحس إذا نظر إليها هكذا أنه يفهم ما يدور بخلدها، فإذا كان ما يدور بخلدها عيبا، وهذا هو الحال في معظم الأحيان، ارتبكت وخيل إليها أنه عراها، وتحاول حينئذ أن تغطي نفسها فترتبك أكثر، ومن كثرة ارتباكها تقع، ويكسبه وقوعها اعتدادا أكثر، فتزداد لمعة الجرأة الساخرة في عينيه ويزداد عدد من يقعن له.
ولا بد أن غريب كان فيه شيء غريب، شيء لم يكن يوجد في بقية الرجال، لعله ذكورة زائدة، أو لعله شيء آخر، فقد كان يكفي أن ترى المرأة من نساء العزبة قفاه أو «دكة» سرواله وهو يعمل حتى تشهق وكأنها رأت رجلا عاريا، ولم يكن يبالي في وسائله، كل الطرق إلى المرأة كانت عنده حلالا، في الفرح يحشر نفسه بينهن فيجمدهن أمامه، وفي ماكينة الطحين كل شطارته أن يحمل القفف للنساء ويدق لهن القادوس، حتى المريضة لم يكن يعتقها، ولولا خوفه من بندقية أبو جورج الناظر لحاول في الليل زيارة الست أم جورج، وكان الناس إذا اشتكوا لعبدون أبيه ثار في وجوههم ولخبط خلقته وقال لهم بفظاظة: «حداكم إياه، أني متبري منه! اعملوا فيه اللي تقدروا تعملوه.»
وكانوا في العادة لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا، فغريب وإن كان قصير القامة إلا أنه كان قويا كفحل الوسية يستطيع أن يرفع ترس الساقية الحديد بيد واحدة ويقطم رقبة الرجل باليد الأخرى، كل هذا وعيناه تلمعان نفس لمعتهما الساخرة.
كان هو أكثر الذكور ذكورة، وكانت فاطمة أكثر الإناث أنوثة، ولهذا كان من الطبيعي جدا أن تقرن الشائعات بينهما، ومع هذا، ما كان أبعد ما بينهما! ففاطمة كانت تتجنبه لشهرته بقلة الأدب وفراغ العين، وكان هو يخافها عن بعد، فهو وإن كان ندا لخادمة الناظر أو شفيعة الأرملة أم العيال، ففاطمة ليست واحدة منهن، أنها فاطمة ، كل النساء كوم وهي كوم!
كان أحيانا يزعم للشبان الغارقين حوله في التبن أنها تحبه وترسل له المراسيل، ولكنه كان أول الساخطين على نفسه من أجل مزاعمه تلك، كان يعمل في الغيط كالرهوان ويكتسح النساء بنظراته وذكورته فتخر له النساء، وزينة بنات العزبة في الأفراح والأسواق، ولكن أمام فاطمة كان عاجزا كل العجز، وفاطمة من ناحية خائفة كل الخوف، حتى إذا قال لها: «العواف» ودق قلبه آلاف الدقات وهو يقولها، كان ردها يأتي مضغوما لا عافية فيه، هي خائفة منه خوفها من العيب، وهو خائف منها خوفه من العجز، والعزبة سادرة في إقرانه بها وإقرانها به، وفرج سادر في ضحكه وذر صداقته في العيون، وسادر في اكتساب محبة غريب حيث يكمن خوفه الأكبر، وكل هذا يجري من تحت إلى تحت، أما في الظاهر فالناس لبعضها والعزبة صغيرة، والناس فيها عائلة واحدة كبيرة، وبيت عبدون ثالث بيت إلى يمين بيت فرج، وحتى حوادث ضياع الإوز قليلة.
ولكنهم كانوا جميعا يتوقعون دائما أن يحدث شيء ما، شيء لا بد أن يحدث، مثل أن يستيقظوا في منتصف ليلة على طلقة، أو تأتيهم من الغيطان صرخة تقول: ظبطوها في الدرة مع غريب. •••
وقد حدث!
والغريب أن أحدا لم يفاجأ بما حدث ولم يستنكره، كلهم أخذوا الأمر على أنه شيء مسلم به، إن كان بالأمس لم يحدث فها هو اليوم قد حدث، حتى أطفال العزبة - وللأطفال مجتمعهم هم الآخرين وإشاعاتهم وآراؤهم الصغيرة في الناس الكبار - حتى هؤلاء أحسوا أن فاطمة قد ارتكبت أخيرا ذلك الشيء المحرم الذي طالما حذرهم منه الآباء والأمهات، ارتكبت العيب.
وعلى هذا حين وجدوا فرج قادما من الغيط من بعيد، ورأوا عمامته مخلوعة ورأسه عاريا، لأول مرة، وصديريه مفتوحا وسرواله ملطخا ببقع الطين، بينما وجهه مصفر وشاربه يرتجف وعيناه في لون الدم، حين رأوه قادما من بعيد هكذا، انزووا في ظل حائط الإسطبل وهم يكادون يحسون بفطرتهم هول الكارثة التي حاقت به، وحين دلف من بوابة العزبة ساروا وراءه عن بعد يتابعونه صامتين، حتى وجدوه يدخل داره وينهر ابنه الذي كان يخبط على صفيحة قديمة صدئة، ثم وهو يطلب من امرأته في صوت خطير لا يكاد يسمع أن تأتيه بالجوزة، ثم وهو يتناولها ويعب من دخانها عبا، وينفث من صدره سحبا كثيفة لا تصدر إلا عن الفرن المبلل الأحطاب.
وحين بدأ بعض الرجال يتسللون إلى الدار تشجع الأطفال وتسللوا هم الآخرين، ولكنهم وقفوا قريبا من العتبة يرمقون ما يدور في الداخل خائفين، ولم يكن يدور في الداخل شيء يخيف، كان فرج جالسا أصفر لا يتكلم، يرص كراسي الدخان ويشرب، وكان الرجال حوله ساكتين لا يعرفون ماذا يقولون، وحتى إذا تململ أحدهم وأهاب به ضميره أن يقول شيئا يخفف به من حدة الهول، فإن فرج كان يمد له غابة الجوزة ليشرب ويسكت، فالموقف ليس في حاجة إلى كلام، فأخيرا جاء اليوم الذي توقعه فرج وظل طول عمره يتوقعه، أخيرا حدث الشيء الذي كثيرا ما فكر فيه وغلى الدم في عروقه وهو يفكر فيه، كان كلما رأى جسد أخته يتلوى في الثوب الأسود الواسع المهلهل، أو كلما رأى قطعة من جسدها ظاهرة من ثقب الثوب، كلما رآها تضحك أو تتكلم أو حتى تأكل، كان يحس بصدره يضيق فجأة ويختنق فيصوب إليها نظرات كالمسامير المحمية، أو يضحك ضحكه الواسع العريض الذي لا بد تلمح فيه خوفه الرهيب من شيء لا بد أن يحدث، بل كثيرا ما حسبها بينه وبين نفسه، ترى ماذا يفعل لو حدث لا قدر الله أن ...؟!
ناپیژندل شوی مخ