وتردد بصر الشيخ علي بين السماء والطبلية، وكلما نظر إلى السماء قدحت عيناه شررا، وكلما نظر إلى الطبلية احتقن وجهه غضبا، والجمع يغمره السكون، وأخيرا نطق الشيخ علي وقال: «بقى أني عايز مائدة يا بلد غجر، تجبولي طبلية؟! وفين علبة السجاير ؟»
وأعطاه أحدهم صندوق دخانه.
ومد يده وتناول قطعة كبيرة من اللحم، وقبل أن يتاويها في فمه قال: «وحتة المرة فين؟!»
فقالوا له: «حقة! إلا دي!»
وهاج الشيخ علي وقال: «طب هه!» وترك الطعام، وخلع جلبابه وعمامته وراح يهز عصاه ويهدد بالكفر من جديد، ولم يسكت إلا بعد أن أحضروا مندور تاجر المر، وبلبع له فصا، وقال له: «خد! خد يا شيخ، مش خسارة فيك! أصلنا ما حدناش نظر! وماكناش عارفين إنك بتنكسف تطلب، الناس تقعد وياك وتنبسط، وبعدين تدلدل ودانها وتمشي وتسيبك! وإحنا لازم نشوف راحتك يا شيخ، هي بلدنا من غيرك أنت وابو احمد تسوى بصلة؟! أنت تضحكنا وإحنا نأكلك! إيه رأيك في كده؟!»
وغضب الشيخ علي غضبا شديدا، وطار وراء مندور وهو في قمة الغيظ ومضى يهز الحكمدار وهو يكاد يهوي بها على رأسه ويقول: «أنا أضحكوا؟! هو أني مضحكة يا مندور يا ابن البلغة؟! امش، داهية تلعنك وتلعن أبوك!»
وكان مندور يجري أمامه وهو يضحك، وكان الناس يتفرجون على المطاردة وهم يضحكون، وحتى حين طار الشيخ علي وراءهم جميعا وهو يسبهم ويلعنهم كانوا لا يزالون يضحكون.
ولا يزال الشيخ علي يحيا في منية النصر، ولا تزال له في كل يوم نادرة، ولا يزال سريع الغضب، ولا يزال الناس يضحكون من غضبه، غير أنهم من يومها عرفوا له، فما يكادون يرونه واقفا وسط الجرن وقد خلع جلبابه وعمامته وأمسك بالحكمدار في يده وراح يهزها في وجه السماء، حتى يدركوا أنهم نسوا أمره وتركوا «أبو احمد» ينفرد به أكثر من اللازم، وحينئذ، وقبل أن تتسرب من فمه كلمة كفر واحدة، تكون الطبلية قد جاءته، وعليها ما يطلبه، وأحيانا يرضى بما قسم الله، وأمره إلى الله.
اليد الكبيرة
هبطت من القطار في العصر، ودائما أصل بلدنا في العصر، والمحطة على ناحية من السكة الحديد، وبلدنا على ناحية، والشمس صفراء، في صفرتها هدوء وسكون ومرض، وبلدنا أيضا تقبع صفراء ببيوتها المصنوعة من الطين، وأشجارها، حتى قمم النخيل كانت تظللها صفرة.
ناپیژندل شوی مخ