ومنية النصر كغيرها من بلاد الله الواسعة تتشاءم من يوم الجمعة، وأي حادث يقع فيه لا بد أنه كارثة أكيدة، ليس هذا فقط، بل إنهم، مبالغة في التشاؤم، لا يجرءون على القيام بأي عمل في هذا اليوم بالذات، مخافة أن يصيبه الفشل، وعلى هذا تؤجل الأعمال كلها إلى يوم السبت، وإذا سألت: لماذا هذا التشاؤم؟ قالوا لك: لأن في يوم الجمعة ساعة نحس. ولكن الظاهر أن السبب الحقيقي ليس هذا، والظاهر أن ساعة النحس هذه حجة ليس إلا، ووسيلة يستطيع بها الفلاحون أن يؤجلوا عمل الجمعة إلى السبت، وبهذا يصبح يوم الجمعة راحة، ولكن الراحة كلمة بشعة عند الفلاحين، الراحة إهانة لخشونتهم وقدرتهم الخارقة على العمل التي لا تكل، الراحة لا يحتاجها إلا أبناء المدن فقط ذوو اللحوم الطرية الذين يعملون في الظل، ومع هذا يلهثون، الراحة الأسبوعية بدعة إذن، إلا أن يكون يوم الجمعة شؤما وفيه ساعة نحس، وحينئذ فقط من الجائز أن تؤجل الأعمال لتتم في يوم السبت.
ولهذا كان الناس يتوقعون أن يكون سبب حركة الجري هذه مصيبة كبرى حلت بأحد، ولكنهم حين يصلون إلى الجرن لا يجدون بهيمة فطسى ولا حريقا قائما، ولا رجلا يذبح رجلا.
كانوا يجدون الشيخ عليا واقفا في وسط الجرن، وهو في حالة غضب شديد وقد خلع جلبابه وعمامته وأمسك بعصاه وراح يهزها بعنف، وحين يسألون عن الحكاية، يقول لهم السابقون: «الشيخ ح يكفر»، وكان الناس حينئذ يضحكون، فلا ريب أن تلك نادرة أخرى من نوادر الشيخ علي الذي كان هو نفسه نادرة، فرأسه كبير كرأس الحمار، وعيناه واسعتان مستديرتان كعيون أم قويق، وله في ركن كل عين جلطة دم، وصوته إذا تكلم يخرج مبحوحا مكتوما كصوت الوابور إذا انكتم نفسه وشحر، ولم تكن له ابتسامة، فقد كان لا يبتسم أبدا، إذا انبسط - ونادرا ما ينبسط - قهقه، وإذا لم ينبسط كشر، وكلمة واحدة لا تعجبه يتعكر دمه حتى يستحيل إلى مازوت وينقض على قائلها، قد ينقض عليه بيده ذات الأصابع الغليظة كالصوامع، أو قد ينقض عليه بعصاه، وعصاه كان لها عقفة، وكانت من خيزران غليظ، وكان لها كعب من حديد، وكان يحبها ويعزها ويسميها الحكمدار.
أرسله أبوه ليتعلم في الأزهر، وهناك أخطأ شيخه مرة وقال له: «إنت بغل!» فما كان من الشيخ إلا أن رد عليه وقال: «إنت ستين بغل!» ولما رفدوه وعاد إلى منية النصر عمل خطيبا للمسجد وإماما، ونسي ذات يوم وصلى الجمعة ثلاث ركعات، ولما حاول المصلون وراءه تنبيهه لعن آباءهم جميعا وطلق من يومها الإمامة والجامع، ولأجل خاطرهم طلق الصلاة، وتعلم الكوتشينة وظل يلعبها حتى باع كل ما يملكه، وحينئذ حلف بالطلاق أن يبطلها، وكان محمد أفندي المدرس بالمدرسة الابتدائية في البندر فاتحا دكان بقالة في البلدة، عرض على الشيخ علي أن يقف في الدكان ساعات الصباح فقبل، ولكنه لم يعمل إلا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كان محمد أفندي واقفا أمام الدكان يتصبب حلاوة طحينية، فقد اكتشف الشيخ علي أن محمد أفندي يضع قطعة حديد في الميزان ليطب، وقال له الشيخ علي: «إنت حرامي!» وما كاد محمد أفندي يقول: «لايمها يا شيخ علي، واسكت، وخليك تاكل عيش»، حتى قذفه الشيخ علي بكتلة الحلاوة الطحينية، ومن يومها لم يجرؤ أحد على أن يعهد للشيخ علي بعمل، وحتى لو كان قد جرؤ، فالشيخ علي نفسه لم يكن متحمسا لأي عمل.
وكان هذا الشيخ علي قبيحا، ضيق الصدر، لا عمل له، ومع هذا لم يكن في البلدة من يكرهه، كان الجميع يحبونه ويعشقونه ويتداولون نوادره، وألذ ساعة هي تلك التي يجلسون فيها حوله يستفزونه ليغضب، وغضبه كان يضحكهم، كان إذا غضب، واربدت ملامحه، وانكتم صوته، كان الواحد منهم لا يتمالك نفسه ويموت من الضحك؟ ويظلون يستفزونه ويظل هو يغضب، ويضحكون حتى ينفض المجلس، وعلى كل لسان كلمة: «الله يجازيك، يا شيخ علي!» ويتركونه وحيدا ليصب جام غضبه على «أبو احمد»، فقد كان يسمي الفقر «أبو احمد»، وكان يعتبره عدوه الوحيد اللدود، ويتحدث عنه كما لو كان آدميا موجودا له اسم ولحم ودم، وكانت مجالسه تبدأ حين يسأله أحدهم: «أبو احمد عمل فيك إيه يا شيخ علي النهارده؟»
وكان الشيخ علي يغضب حينئذ غضبا حقيقيا؛ ذلك لأنه لم يكن يحب أن يحدثه أحد عن فقره، إذا تحدث هو كان به، أما أن يتحدث الناس عن فقره فذلك شيء يدفع إلى الغضب! فالشيخ علي كان خجولا جدا رغم قسوة ملامحه وكلامه، وكان يفضل أن يبقى أياما بلا دخان على أن يطلب من أحدهم أن يلف له سيجارة، وكان يحمل معه على الدوام إبرة وفتلة لرتق جلبابه إذا تمزق، وإذا اتسخ ذهب بعيدا عن البلدة وغسل ثيابه وظل عاريا حتى تجف؛ ولذلك كانت عمامته الوحيدة أنظف عمامة في البلدة.
كان حريا إذن بأهل منية النصر أن يضحكوا من هذه النادرة الجديدة، ولكن الضحكات كانت تموت في الحال! والألسن تتراجع خائفة إلى الحلوق، وكأنما لدغتها عقارب! فكلمة الكفر كلمة بشعة، والبلدة مثل غيرها من البلاد تحيا في أمان الله، فيها كل ما تحفل به سائر البلاد، الناس الطيبون الذين لا يعرفون إلا أعمالهم وبيوتهم، واللصوص الصغار الذين يسرقون كيزان الذرة، والكبار الذين ينقبون الزرائب ويسحبون البهائم من أنوفها بالخطاطيف، والتجار الذين يتاجرون بالمئات، وتجار القروش، والنساء الملعبات غير المعروفات، وأولئك المعروفات على نطاق البلدة كلها، والصادقون والكاذبون والخفراء، والمرضى والعوانس والصالحون، فيها كل ما تحفل به سائر البلاد، ولكن الجميع تجدهم في الجامع إذا أذن المؤذن للصلاة، ولا تجد واحدا منهم فاطرا في رمضان، وثمة قوانين مرعية تنظم حياة الكل ويسمونها الأصول، فلا يتعدى اللص على لص، ولا أحد يعير أحدا بصنعته، ولا يجسر واحد على تحدي الشعور العام، وإذا بالشيخ علي يقف ويخاطب الله هكذا بلا إحم ولا دستور!
كانوا يضحكون قليلا، ولكنهم ما يكادون يسمعون ما يقوله حتى يتولاهم وجوم.
كان رأسه عاريا، وشعره القصير يلمع بالعرق وبالشيب، والعصا الحكمدار في يمينه وعيناه تنفثان حمما، وفي وجهه غضب أحمق شديد، وكان يقول موجها كلامه إلى السماء: «إنت عايز مني إيه؟! تقدر تقول لي، إنت عايز مني إيه؟! الأزهر، وسبته عشان خاطر شوية المشايخ اللي عاملين أوصيا ع الدين، ومراتي، وطلقتها، والدار، وبعتها، وأبو احمد، وسلطته علي دونا عن بقية الناس! هو ما فيش في الدنيا دي كلها إلا اني؟! ما تنزل غضبك يا رب على تشرشل ولا زنهاور! مش قادر إلا علي اني؟! عايز مني إيه دلوقت؟! المرات اللي فاتت كنت بتجوعني يوم وباستحمل، واقول: «يا واد، كأننا في رمضان! واهو يوم وينفض»، المرة دي بقالي ماكلتش من أول امبارح العصر، وسجاير ممعييش سجاير بقالي أسبوع، ومزاج حد الله ما دقته بقالي عشرة ايام، وأنت بتقول فيه في الجنة عسل نحل وفواكه وأنهار لبن، ما بتدنيش منهم ليه؟! مستني اما اموت م الجوع علشان أروح الجنة وآكل من خيرك؟! لا، يا سيدي، يفتح الله! احييني النهارده، وأبقى بعد كده وديني مطرح ما توديني! يا أخي، ما تبعد عني أبو احمد ده، ما تبعته أمريكا، هو كان انكتب علي؟! أنت بتعذبني ليه؟! آني ما حلتيش إلا الجلابية دي، والحكمدار، عايز مني إيه؟! يا تغديني دلوقتي حالا، يا تاخدني حداك على طول، ح اتغديني والا لأ؟!»
كان الشيخ علي يقول هذا بانفعال رهيب، حتى لقد تكوم الزبد فوق فمه، وطماه العرق، وامتلأ صوته بحقد فاض عن حده، وأهل منية النصر واقفون وقلوبهم تكاد تسقط من الرعب، كانوا خائفين أن يسوق الشيخ علي فيها ويكفر، ولم يكن هذا فقط مبعث خوفهم، فالكلمات التي يقولها الشيخ علي خطيرة، قد تغضب الله - سبحانه وتعالى - وقد تحل ببلدهم من جراء ذلك نقمة تأتي على الأخضر واليابس، كان كلام الشيخ علي يهدد البلدة الآمنة كلها، وكان لا بد من إسكاته، وعلى هذا بدأ العقلاء يطلقون من بعيد كلمات طيبات يرجون فيها من الشيخ علي أن يعود إليه رشده ويسكت، وترك الشيخ علي السماء قليلا، والتفت إليهم: «أسكت ليه؟! يا بلد دون، أسكت لما اموت م الجوع؟! أسكت ليه؟! خايفين على بيوتكم ونسوانكم وزرعكم، اللي حداه حاجة يخاف عليها، إنما انا مش خايف على حاجة، إن كان زعلان مني ياخدني، إنما وديني وما أعبد، إن جه حد ياخدني إن شالله يكون عزرائين لمدشدش على رأسه الحكمدار، وديني، ماني ساكت إلا اما يبعت لي مائدة من السما حالا! أنا مش أقل من مريم! هي مهما كانت حرمة، إنما انا راجل، وهي ماكنتشي فقيرة، إنما انا أبو احمد طلع ديني! وديني وما أعبد، ماني ساكت إلا أما يبعت لي حالا مائدة!»
ناپیژندل شوی مخ