في الساعة العاشرة يدخل علي صبيان الحانوتية ويتجمهرون أمامي وتمتد أذرعهم الجافة العجوزة ببلاغات الوفاة، وكل منهم ينافس الآخر في إغرائي، وكل منهم يحاول أن أذهب معه أولا لأكشف على متوفاه وأصرح له بالدفن لينجز عمله قبل فوات النهار.
وكنت ما أكاد أراهم حتى تنتابني آلاف المشاعر والرغبات، أقواها جميعا رغبتي في أن أضحك، ولم أكن أدري بالضبط لماذا يراودني الضحك، ولكن شيئا ما في تركيب صبيان الحانوتية هؤلاء كنت لا أكاد أراه حتى أضحك، لا من الصبيان، ولا من تزاحمهم، ولكن من الحياة نفسها، ذلك الشيء الرائع الجميل الذي نتشبث به بكل ما نملك من قوة، تلك الحياة أحيانا تضحك، وكنت لا أكتفي بالضحك بل كان لساني يتحرك، أحيانا يسخر، وأحيانا يتفلسف، وأحيانا يقول شيئا تافها لا معنى له، وفي أغلب الأحوال كنت أقول «للصبي» الذي اكتسح زملاءه في سباق الأيدي وأصبح أمامي مباشرة: «وانت، ان شاء الله، ح نكتب شهادة وفاتك انت إمتى؟!»
وكان الصبي الشيخ حينئذ يضحك، وضحكهم ليس كضحكنا، فالواحد منهم ينظر إلى الأرض، ويمط رأسه، ويعض على نواجذه، وتتسع عيناه قليلا، ثم تخرج: «هه، هه»، تخرج من حنجرة جافة شائخة لم تعد تقوى حتى على الضحك.
كانوا في العادة يضحكون كلما سألتهم ذلك السؤال، غير أني قلت لأحدهم شيئا كهذا مرة فلم يضحك، واستغربت؛ فالعادة قد جرت أن يضحك الجميع لكلامي سواء أرادوا أم لم يريدوا؛ إذ كل منهم كان يحاول إرضائي، استغربت وأمعنت النظر في «الصبي»، ولم أجده يختلف عن بقية زملائه في قليل أو كثير، فقد كانوا جميعا متشابهين، كما يتشابه الأطفال حديثو الولادة في طابور المناظرة، وكأنما يبدأ الناس متشابهين، وينتهون متشابهين، كل ما استطعت أن ألحظه من فرق أن عينيه الاثنتين كانت عليهما غشاوة رمادية داكنة كسحب الشتاء، وقلت له: «مالك؟!»
كان لا بد أن في الأمر شيئا، فقال ووجهه إلى الأرض: «يا ريت الواحد مات بدالها!» - «بدال مين؟» - «مش بنتي تعيش أنت!» - «ماتت؟!» - «أيوه، امبارح، هب فيها الوابور وماتت في المستشفى.»
ولم أصدقه، فقد قال هذا دون أن يتغير الانفعال الذي لا يبرح وجهه، وسألت «معلمه» لأتأكد، ومعلمه لم يكن رئيسه فقط، ولكنه يرأس ثلاثة صبيان شيوخ آخرين من صبيان حانوته، ولم يكن رجلا ضخما له شوارب كعادة «المعلمين»، كان شابا في الثلاثين، حليق اللحية والشارب، لونه برونزي قاتم، وملامحه شديدة الخطورة، ومع هذا كان فهلويا مضاحكا ورث الحانوت حين مات أبوه بعد أن لف ودار، وتجمعت له كل حداقة اللف والدوران، ومن حركاته وطريقة ابتسامته تحس أنه ولد لا تفوت عليه الواحدة، وإذا فاتت فبخطره فقط ورضاه، ورغم صغر سنه فقد كان يرتدي الزي التقليدي للمعلمين الكبار: طربوشا وجيها فاقع الحمرة، وجلبابا من الصوف تحته قفطان من الحرير يبدو قيطانه الأسود من فتحة الجلباب، وحذاء أسود أنيقا، وفي يده سبحة كهرمان.
سألته فأكد لي أن ما قاله الرجل صحيح، وأن بنته ماتت حقيقة في المستشفى، وقد أصبح بموتها وحيدا مقطوعا من شجرة.
وصعب على عم محمد جدا وهو واقف وقفته المنحنية المائلة، وكأنما تجذبه إلى الأرض قوة عاتية تستعجل اللحظة التي تواريه داخلها، واقف لا يبكي، ولا يدمع ولا يهز رأسه ولا ينهار.
وقلت له: «معلهش يا عم محمد! البقية في حياتك.»
وتنبهت وأنا أقول له هذا إلى أني أخمن فقط أن اسمه عم محمد وأنني لا أعرف اسمه الحقيقي، ولا أعرف إن كان محمدا أو عليا أو سمعان، كنت أناديهم جميعا بيا عم محمد، وكانوا من فرط تواضعهم وأدبهم يردون، وكأن لم يعد مهما لدى الواحد منهم أن يمتلك اسما، وضغم عم محمد الكلمات وهو يرد ويقول: «يا ريت الواحد كان مات بدالها!»
ناپیژندل شوی مخ