ومع الكهولة تفجرت ثورة أخرى في أعماق سرور تمرد بها على حب زوجته، وانطلقت عيناه وغرائزه وراء أحلام المراهقة من جديد. ونشب الشقاق بينه وبين زينب الوديعة المحبة الحزينة، وتعاتبه بصوتها المهموس: ماذا نصنع لو شكتك جارتنا إلى زوجها؟
فيقول بحدة: لا يوجد أصلا موضوع للشكوى.
ولما شكته هي إلى عمرو صب غضبه عليها وهددها بأنه سيتزوج ثانية وقتما يشاء. وكان الزواج مرة أخرى أمنية يعجز عن تحقيقها. والحق أنه لم يخن زوجته إلا مرتين؛ واحدة في بيت من بيوت البغاء، والأخرى علاقة عابرة لم تدم أكثر من أسبوع. وحنق أكثر على فقره، وأكثر وأكثر على جده الفظ، ودأب على شراء أوراق اليانصيب لعل وعسى، ولكنه لم يجن من ذلك كله إلا العتاب الصامت يلوح في أعين بكريه لبيب وبناته، خاصة عندما تدهورت صحة زينب. ولما رحل عمرو دهمه شعور بالوحدة والكآبة، وجاءت الحرب والإظلام والغارات فأعلن أن الحياة صفقة خاسرة، ولم يجد من سلوى في الحياة إلا في عظمة ابنه لبيب الذي تاه بها مع الجميع، الأمر الذي زاده ثقلا على قلوب الأهل. وفي الفترة الأخيرة من حياته انقطع عن زيارة آل المراكيبي وآل داود، ولكنه كان يزور كثيرا أبناء عمرو وبناته ويشارك في أفراحهم وأحزانهم، كذلك بيت أخيه، وكانوا يحبونه منذ صغرهم وتضاعف حبهم له عقب وفاة أبيهم، وفي العام الأخير من خدمته الحكومية، أصابته أزمة قلبية وهو جالس في المشربية في ليلة خريف يرنو إلى الظلام الجاثم فوق البيوت والمآذن، متوقعا بين ساعة وأخرى نذير الغارة المعتاد، وقد فارق الحياة في أقل من دقيقة واحدة.
سليم حسين قابيل
آخر ذرية سميرة عمرو وحسين قابيل، ولد ونشأ في شارع ابن خلدون، وتوفي أبوه وسنه عام واحد، فترعرع في حياة منضبطة غير الحياة الرخية التي تقلبت فيها أسرته وهو خاطرة في عالم الغيب. وكان وسيما كأمه، فارع العود كأبيه، كبير الرأس والعقل كأخيه حكيم. ومنذ صغره تجلت صلابته وعناده كما تجلى تفوقه الدراسي. وعدته أخته هنومة بتدينها وصرامتها الأخلاقية، وظن عهدا طويلا أنه يتلقى حقائق الغيب عن لسان جدته راضية. وكان يحب كرة القدم ويجيدها، ويحب مخالطة البنات في حديقة الظاهر بيبرس، ويكره الإنجليز، ودائما تداعب خياله أحلام الإصلاح والمدينة الفاضلة. ولم يمل إلى حزب من الأحزاب، صده عن ذلك أخوه حكيم الذي رفض الجميع بدون استثناء. وسمع حكيم يقول مرة: نريد شيئا جديدا.
فقال بتلقائية: مثل سيدنا عمر بن الخطاب.
واتجه بدافع من مزاجه وبتأثير من هنومة على الكتب الدينية في مكتبة أخيه. كان حلم المدينة الفاضلة يغلب عليه الكرة والبنات. ولما قامت ثورة يوليو كان في المرحلة الثانوية فرحب بها بكل حماس كمنقذ من الضياع، وشد من ارتباطه بها الدور الذي لعبه شقيقه حكيم فيها. لأول مرة خيل إليه أن المدينة الفاضلة تبني حجرا بعد حجر. وظن أنه بانضمامه إلى الإخوان إنما يندمج أكثر في الثورة، فلما وقع أول تناقض بين الثورة والإخوان أبقاه قلبه مع الإخوان، ومضى يختلف مع شقيقه. وقال له حكيم: الحذر.
فقال: الحذر لا ينجي من القدر.
والتحق بالحقوق ونشاطه السياسي - أو الديني - في تصاعد. ولكن أحدا من أهله لم يتصور أنه سيكون بين المتهمين في قضية الإخوان الكبرى. وتحير حكيم وقال لأمه الجزعة: لا حيلة لمخلوق!
وحكم عليه بعشر سنوات؛ فترنحت سميرة تحت وطأة الضربة، ووجدت أن تألق نجم حكيم لا يعزيها شيئا عن سجن سليم، فأضمرت الكراهية للثورة وراحت راضية تدعو على الثورة ورجالها، وخرج سليم من السجن قبل 5 يونيو بعام فأتم المتبقي له من الدراسة وحصل على الليسانس، وعمل في مكتب محام إخواني كبير. ولما وقعت الهزيمة الكبرى اعتبرها عقابا إلهيا على حكم كافر. ولم تنقطع صلاته بالزملاء ولكنها مضت في تكتم شديد وحذر، ووجد متنفسا في الكتابة فوهب لها سنوات من عمره تمخضت عن ثمرة جيدة في كتاب «العصر الذهبي للإسلام» ثم أتبعه بكتاب «أهل العزم والتقوى». وفي الوقت نفسه أحرز نجاحا لا بأس به كمحام، وتحسنت أحواله المالية من رواج كتابيه خاصة بعد أن ابتاعت السعودية منهما كمية موفورة. ولما رحل زعيم الثورة داخله شيء من الطمأنينة، فقالت له سميرة: آن لك أن تفكر في الزواج.
ناپیژندل شوی مخ