وحاول عمرو، وحاولت راضية، ولكنها لم تعدل عن قرارها. وتخرج نادر في مدرسة التجارة العليا في أثناء الحرب العظمى الثانية، وتعين في مصلحة الضرائب، ولكنه عرف من أول يوم بطموحه الذي لا حد له، وراح يدرس اللغة الإنجليزية في أحد المعاهد الخاصة، وأشفقت أمه عليه من انهماكه في العمل ما بين المصلحة والمعهد. وتسأله: لماذا تكلف نفسك هذا التعب كله؟!
ولكنه كان راسما هدفا، ولم تكن قوة هناك لتحيد به عنه. أما حبيبة فقد توجت الكهولة حياتها الجافة فبليت وتبدت كالعليل. وراقبت صعود ابنها بسعادة، ولم يكن يضن عليها بمال، ولكنها أبت أن تهجر الدرب الأحمر إلى مغانيه الجديدة. ولما تركها إلى بيت الزوجية غاصت في غربة مخيفة لم تفلت من قبضتها حتى الموت. وقالت لها راضية : نحن نربيهم لهذا، وعليك أن تفرحي وتحمدي الله.
فقالت بانكسار: شد ما ضحيت من أجله!
فقالت راضية: هكذا كل أم، وعليك أن تزوري سيدي يحيى بن عقب.
وكانت حبيبة آخر من مات من آل عمرو، فبكت الجميع بحرارتها المعروفة حتى صفت عينيها، ولما ماتت لم تجد من يبكي عليها.
حسن محمود المراكيبي
نشأ في أحضان النعيم ما بين السراي الكبرى بميدان خيرت وسراي العزبة ببني سويف. وكأنما جيء بنازلي هانم إلى آل المراكيبي لتحسين النسل، فتجلى أثرها الطيب في الذكور، ومنهم حسن الذي عرف بطول قامته ووسامته ومتانة عوده. وبفضل تقاليد تلك الأيام وسماحة القاهرة على عهدها لم يكن يمر أسبوع دون تزاور بين ميدان خيرت وميدان بيت القاضي، وأراد محمود بك أن يوجه بكريه لدراسة الزراعة لينتفع به في حينه، ولكن إقباله على الدراسة كان فاترا كقريبه حامد، فأدخلهما الرجل مدرسة الشرطة معا. وغمرته ثورة 1919 بعواطفها القوية وإن لم يتعرض بسببها للأذى كما حصل لحامد. وسرعان ما شارك أسرته موقفها من زعيم الثورة وولائها للملك. وكان ذلك أوفق لعمله في الداخلية فلم ينقسم كحامد بين باطن وفدي وظاهر حكومي، وبفضل نفوذ أبيه لم يعرف عناء العمل في الأقاليم، ولم يستجب لرغبة أبيه في الزواج المبكر، ولكنه مارس حياة إباحية مستغلا سحر زيه الرسمي الملون وما توفر له من نقود مرتبه والنفحات التي كانت تكرمه بها أمه. ولكنه أذعن أخيرا فتزوج من عروس تدعى زبيدة من أسرة أمه؛ فزفت إليه في شقة بجاردن سيتي، وعاش في مستوى يحسده عليه وكيل الداخلية نفسه. واشتهر في عهود الانقلابات السياسية بالعنف في تفريق المظاهرات. وتلقى حملات متتابعات في الصحف الوفدية، بقدر ما أساءت إلى سمعته لدى الجماهير فإنها زكته خير تزكية عند السراي والإنجليز، وأتاحت له ترقيات استثنائية. وقال عمرو أفندي لحامد ابنه: دخلتما المدرسة في عام واحد وها هو يرقى إلى رتبة اليوزباشي على حين أنك ما زلت ملازما ثانيا.
وكان سرور أفندي حاضرا على نفس مائدة الغداء فقال بلسانه الحاد : خائن وابن مراكيبي!
ولكن حامد وحسن كانا صديقين بالإضافة إلى قرابتهما، وتوثقت العلاقة أكثر بعد زواج حامد من شكيرة، وقد تعرض حسن للموت في عهد صدقي فأصابت طوبة رأسه وأخرى عنقه، وقضى في المستشفى شهرا كاملا. وكان أعنف إخوته على آل عمه أحمد عندما فرق الخلاف بين الأخوين، بل قد تصادم مع ابن عمه عدنان واعتدى عليه بالضرب في السراي فكان يوما مأساويا في تاريخ الأسرة. وأنجب حسن ثلاثة من الذكور محمود وشريف وعمر، وضرب بهم المثل في الجمال والذكاء. ولما قامت ثورة يوليو كان لواء، وكان ثريا جدا بما ورثه وما ورثته زوجته، ولكن الثورة أحالته على المعاش في حركة تطهير الشرطة؛ فخرج مع حامد في قائمة واحدة، وكانت علاقته به قد انقطعت بعد طلاق شكيرة. وقال لزبيدة: علينا أن نبيع الأرض، فقد انقلب الدهر على ملاك الأراضي.
والضرر الذي لحقه بيد الثورة لا يقاس بما دهم غيره من طبقته، منهم ابن عمه عدنان، ولكنه وجد نفسه، في المعسكر المضاد، ومارس عواطفه كلها نحو الثورة الصاعدة. ومضى يبيع أرضه وأرض زبيدة على دفعات وأنشأ بماله متجرا في شارع شريف راح يديره بنفسه فازدادت ثروته، أما أبناؤه محمود وشريف وعمر فقد تربوا في مدارس الثورة وتشبعوا بفلسفتها وثملوا ببطولة زعيمها، ولم يأسف حسن على ذلك، بل وجد فيهم وفي أخويه عبده ونادر حماية له من أعاصير تلك الأيام، ولعل أخويه كانا وراء الأسباب الخفية التي جنبت متجره التأميم عام 1961. ولما وقعت كارثة 5 يونيو، كان محمود وشريف وعمر قد تخرجوا أطباء وعملوا في مستشفيات الحكومة، وأدركتهم النكسة التي زلزلت الجيل الناصري فأذرته مع رياح الضياع واليأس؛ ولذلك ما كاد الزعيم يرحل ويحل محله السادات حتى هاجر محمود وشريف إلى الولايات المتحدة ليبدآ حياة علمية جديدة ناجحة، أما عمر فقد فاز بعقد عمل في السعودية. ووجد حسن في السادات وسياسة الانفتاح بغيته وعزاءه عن كافة هزائمه الماضية، فشمر للعمل والثراء الخيالي، وشيد له ولزوجته قصرا في مدينة المهندسين وعاش عيشة الملوك وهو يحلم بعودة أولاده ذات يوم ليرثوا ما جمع لهم من ملايين. وانتهت حياته في الثمانينيات في حادث عارض، إذ كان يسوق سيارته المرسيدس في شارع الهرم فانقلبت به واحترقت، واستخرجوا جثته منها متفحمة متخلية عن الدنيا وملايينها.
ناپیژندل شوی مخ