وفي السنوات الخمس الأخيرة من عمرها نهاية الربع الأول من القرن وعند مشارف الثلاثينيات، أقعدها الكبر، وسدت المنافذ بينها وبين الوجود ففقدت السمع والبصر، وبقي لها الوعي فكانت تعرف الأحباب بأناملها، وقامت شهيرة بخدمتها ما استطاعت حتى ضاقت بها، وكانت أحن على القطط منها على أمها. وكانت تشكوها إلى راضية كلما قامت بزيارة لها، فتعاقب راضية شقيقتها وتذكرها بوصية الرسول بالأم فتقول شهيرة: ما أسهل الوعظ، ولكنك تعيشين مكرمة في بيتك وتلقين علي وحدي تنفيذ الوصية!
وفي إحدى الزيارات وجدت راضية المدخل يموج بالقطط، تموء وتتداخل بأسلوب وحشي ينذر بالدهشة، ورأت جليلة ملقاة على الكنبة مسلمة الروح، وكانت شهيرة نائمة في الدور الأعلى.
جميلة سرور عزيز
لم ير ميدان بيت القاضي وأشجاره المثقلة بأزهار «ذقن الباشا» أجمل منها إلا تكن مطرية ابنة عمها عمرو، وهبتها أمها بشرتها العاجية وعينيها الخضراوين النجلاوين، وفاقت أمها بفيها الأنيق كالقرنفلة وجسمها المدمج. وبخلاف أمها كانت تموج بالحيوية والخفة واستمدت من غرائز أبيها لفحات حارة خضبت وجنتيها بماء الورد الأحمر، وسبقت زمنها لا بالتعليم، فلم يجاوز نصيبها منه محو الأمية كأختها وبنات عمها، ولكنه بالتحرر التلقائي المنطلق بقوة نضج مبكر ونداء الأشواق المبهمة، فتلوح في النافذة لتسقي أصيص الورد، أو تخطر بنصف نقاب فيما بين بيتها وبيت عمها المجاور، أو تلاقي النظرات الجائعة بدلال متمرد، في طفولتها كانت تجول في الميدان بصحبة أخيها الأكبر لبيب، وانضم إليهما بعد سنوات قاسم. كانت تكبر قاسما بسنوات ولما ناهزت الحلم لم تجد سواه لعبة لقلبها المتحفز. وكلما خلت به لاعبته لتوقظه من براءته فتبعها في حيرة ثملة ممتعة كرؤية جمال الفجر لأول مرة، ولمس بأنامله المتشنجة جواهر حال الجهل بينه وبين معرفة قيمتها. ولما قارب الثالثة عشرة سقط في الشهد قبل الأوان. وتفتح على راحتها الناعمة المخضبة بالحناء كالوردة وأخلد بكل عذوبة إلى نفثات صدرها المضطرم، وبسبب من تلك الرعونة تصدى لها أخوها أمير، وعنفها حتى ضاقت به وبكت. وقالت له أمه: تذكر أنك أخوها الصغير.
فقال لها: سمعتنا!
فقالت زينب بهدوئها الذي لا تخرج عنه: إني أعرف بنتي تماما وهي مثال للأدب.
ولما جاوز أمير حدوده قال له سرور أفندي: دع الأمر لي.
وكان سرور أفندي يميل إلى التسامح المعتدل، وكان في ذلك الوقت يتساءل عما جعل عامر ابن أخيه عمرو يميل إلى عفت بنت عبد العظيم داود دون جميلة بنت عمه. ويقول لزوجته: الله يخيبه. أليست بنتنا أجمل؟
فتقول زينب ساخرة: أليس هو ابن راضية المجنونة؟!
ويقول سرور بمرارة: أخي يزعم أنه من أهل الطريق، ولكن رغبته في القرب من أهله الأغنياء تفوق رغبته في القرب من الله!
ناپیژندل شوی مخ