صب ظلام الليل كله في قلبي وقني من عداوة لئيم تسود وجه الدنيا في عيني وتجعل قلبي من يأسه وانقباضه كأنه مملوء بالدم الغليظ الفاسد الذي ركد وخبث بعد أن سال من جروح الصداقة! ولك الله أيتها الصداقة الشريدة في هذا العالم فلا تلم بأحد في حوادث الحياة إلا كما يلم ضيف البيداء إذ يتغطى بملاءة النهار نائما فمتى أظلمت الفجاج المسفرة انطلق عليه سواد. وهل أشد وأوجع لعمري من سقطة إنسان يتغفل عنه صاحبه حتى يستنيم إليه ويرتبط معه ثم يثب به فجأة وقد خذله خذلانا ناريا وقدت عداوته؟ ومن الذي يستطيع أن يتوقى هذه المفاجأة، بل كيف يستطيع؟ وأية قوة في الأرض تمنع سقوط أحد العدلين المتوازنين على ظهر البعير السائر إذا خف الآخر وأخل بالموازنة فلا يكون قد دفعه ثقله أكثر مما يدفعه الثقل الذي فقده؟
يا لله! أنجد عداوة ثابتة ولا نجد صداقة كالعداوة على الأقل ... لقد أصبحت هذه الصداقة جسما حيا بنوع من الحياة المادية يتمثل في كل صديق، فترى علامة حياتها وقوتها في الأصدقاء أن يصافح بعضهم بعضا بالأيدي ويدوس بعضهم بعضا بالأرجل، فكأنهم إذا اكتفوا بالمصافحة واجتزءوا بها مما عدا ذلك خافوا على أرجل الصداقة من الشلل إن هي منعت من الحركة، أما القلب الذي تحيا به هذه الصداقة الخالدة ... فهو الحب الثابت الذي لا يتغير ولا يتحول ولا ينقص بل يزيد كما يصفه الأصدقاء فيما بينهم، ذلك الحب الذي تسميه أقوالهم أسماء منتحلة، ولكنك حين تتعرفه من أعمالهم لا تجدها تعرف له إلا اسما واحدا وهو الطمع ... فاضحك الآن من صداقة الناس أيها القمر الذي يعيش بالطفولة الإلهية، وها أنا ناظر إليك فعسى أن يسقط إلى قلبي شيء من هذا الضحك، فإن لم يكن فمعنى منه يجعل الفكر ضاحكا، فإن لم يكن فلا أقل من أن يحرك في ذاكرتي ذلك الهواء العطر الجامد في بعض زواياها فيندفع إلى قلبي بذلك الرنين الذي حفظته الذاكرة من ضحك تلك الحسناء الفاتنة قبل أن تحق النوى وينصدع الشمل وأبقته على نفسي لتسمعها منه في هذا الفراق الطويل ألحان الحب والأمل.
الفصل الأخير
والآن أراك أيها القمر أنشأت تنحدر مسترسلا كأنما رفعتك الملائكة وأخذت تمشي بك الهوينى لتجعلك في الأفق نافذة يستطل منها وجه الفجر وقد جعل الليل ينطوي كأنه غطاء الموت تكشفه الملائكة عن الأرض وتلفه من ههنا وههنا لتتنفس الحياة من غشيتها ثم تجمع عليه أطراف هذه القمراء
1
لتحرزه فيها وترجع بالموت إلى السماء مطويا منك أيها القمر في قطعة من الخلود.
وتطايرت النسمات من الأرض خفيفة لا تثبت كأنها أرواح الأحلام مسرعة في الهواء يدافع بعضها بعضا وهي تلتقي عند الأفق بنسمات رقيقة هادئة تبعث على القلوب أنفاسها فتستشعر منها روح الجنة كأنها آتية منها لتكون أرواحا للأزهار العطرة التي ينبت بها ضوء النهار الجديد.
لقد بدأت الحقيقة أيها القمر تتوارى معك في حجاب الغيب فلا تلبثت قليلا يا صديقي السماوي الذي آنست منه معنى الخلود، والذي لم أكد أصادقه حتى ملأ قلبي من نور السماء وجمالها وجعلني أشعر بمعنى الإخلاص في الصداقة وهو أحد المعنيين اللذين لا يشعر بهما إلى أسعد الناس في الأرض طرا، ألا وهما الإخلاص في الصداقة والإخلاص في الحب.
الصداقة كما عرفت منك يا صديقي السماوي لا تكون كذلك حتى تدع الإنسان كأنه يشعر في السراء والضراء بنفسين، فيضاعف له السرور؛ لأن كلتا النفسين تطلب الزيادة منه ويضعف عنه الهم؛ لأن كلتاهما تعمل لنقصه إذ هو هم نفس واحدة وتوزعته نفسان ويكون الإنسان في الحالة الأولى كأنه يتلقى روح النعمة لنفسه بروح السرور من صديقه، وفي الحالة الثانية كأنه يتلقى روح الجزع بروح الاطمئنان، وإن أشقى الناس من لا يستطيع أن يجد إلى جنبه في سورة الجزع نفسا أخرى تجزع له باطمئنان ليطمئن في جزعه، وهي الصداقة بعينها، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
ولقد نادمتك منذ الليلة يا صديقي بهذا الحديث، فهل ثملت فملت، أم أنت قد مللت؟ حاشا أن تكون كالأصدقاء في هذه الأرض تقدر فيهم آجال العواطف الرقيقة بالساعات فكأن الإنسان يقرأ في قلوبهم رسائل موجزة يفرغ منها قبل أن تفرغ أفواههم من كلمات التحية والتملق وغيرها من الأشواك اللينة التي أحاط الله بها هذا الورد من شفاههم ... ولا يكون للرسالة منها حظ من إطالة النظر إلا إذا كان فيها هم يشغل النفس فيكون عمرها بمقدار اختبال الفكر فيها ...!
ناپیژندل شوی مخ