أفتحزن أيها الفقير على أنك تشتري بعمرك هناء القلب وعافية الجسم ومحبة الناس وثواب الله وابتسامة الموت؟
لا تتعجل القدر ولا تختط لله خطة المستقبل ولا تغذ النسيان بأفكارك حين تفكر في البعيد، فإنك في حاجة إليها؛ واعلم أن الآلة التي تدير هذا العالم إنما تدار من فوق حيث لا تصل إليها اليد التي تحاول أن توقفها أو تبطئ من حركتها أو تزيد فيها، يد المجنون الذي يصيد النجوم بالشبكة حين تنبعث أخيلتها في الماء الصافي ... وكن إنسانا لا أكثر، فإنك تحاول أن تصير إلها فتصير شيطانا، وأجعل من فقرك ومصائبك وأحزانك سمادا لهذه الزهرة الناضرة، زهرة الروح الحية، فإنها تغتذي بكل ذلك وتحيله إلى نضرة وجمال وعطر يتأرج؛ وأضيء نفسك، فإن حولك ضياء يغمرك من لدن تفتح عينيك إلى أن تنام؛ ولا تكن كالسفعة في وجه الشمس، ولا كالغبار في النسمات، ولا كالريح الخبيثة في أريج الأزهار، وإن عرض لك شر أو طمع أو شيطان فاجعل السماء بينك وبينه فإن في باطنك قطعة منها، وترفق بصبرك لا تجهده، وبدمعك لا تفنه، فإنهما الزاد والماء لمن يقطع هذه المفازة المهلكة من الدنيا سالما ولا يريد أن يأكل من جيفها أو يكون فيها جيفة تؤكل، ولا تراء الناس في شيء فإنك تفقد نفسك بينهم ولا تحصل عليهم إلا ظلالا وخيالات؛ ولعمري ماذا ينفعك أن تمشي وراء الملك لتقيس خطواته؟
إني لأرى قوما يعفون لحاهم ليجعلوا سبالها الطويلة حبالا تتعلق بها النفوس الساقطة إلى السماء، وآخرين يقيسون ما بين حيطان المساجد بجباههم فلا تجد موضع شبر إلا وقد سجدوا عليه لتصير هذه الجبهة الضيقة «ذراعا معماريا» ... في قسمة الجنة التي عرضها السموات والأرض ... اجترءوا على الله ليراهم الناس أقوياء فلا يجترئ عليهم أحد، ولا يبالون بأن الله «سيأخذهم» بذنوبهم ما دام ذلك لا يكون إلا بعد أن يأخذوا من الناس وهذه السين - سين التسويف - طويلة العمر جدا عند هذه الفئة وأمثالهم من الغافلين؛ فإن عمرها يبلغ ما بين الوهم والحقيقة، وما بين نعيم الدنيا وعقاب الآخرة.
فلا يهولنك أيها الفقير المسكين من أمر الأغنياء ولا تنزل نفسك بالمهانة دونهم وأنت أعظم أجرا؛ فإنك تفرض الله من نفسك وإن أفضلهم من أقرض ربه من دراهمه؛ وكن في الحياة السافلة ابن الموت، وإذا كنت شجاعا فلا تبال آخرة الحرب ما تكون؛ واعلم أن الفقر الذي يلتوي عن طريقه كالسيف القاطع؛ إذا لم يضرب به إلا صفحا فإنه ينكسر لا محالة ويكون حامله قد أهان أشرف ما فيه إذ نزل به دون (حده)، فلا تهن الفقر الشريف حتى ترد به على الله صالحا نقيا يوضح منك بكل ضاحكة،
2
وتمتزج بطهارته ابتسامات الملائكة التي هي ثمن دموعك، ويكون لك في الخلد فجرا أبديا كما يكون للمحبين نور القمر فجرا في أول الليل.
الفصل الرابع
آه عليك يا قمري الجميل وآه على هذا السحر السماوي لو يكون للجمال الأرضي شيء منه يتفادى به من لسان واش وعذول! إنك لتسكب الصمت والنوم والأحلام على الأرض في ضيائك ممزوجة بالأفكار الجميلة لرءوس الفلاسفة التي تشبه القلوب الهرمة، ولقلوب العشاق التي أعرف كل قلب منها كأنه عقل فيلسوف؛ فما تكاد تطلع وتعتلي الأفق حتى تراك الأرض كأنك على فم السماء إشارة لها بالسكوت فتسكت؛ وإن بقي فيها من يشرق النهار في عينيه كأنه مختبئ فيهما بحركته وضوضائه كجماعة محرزي المال من لصوص النهار وطالبي المال من لصوص الليل مثلا ... فإن الطبيعة تلقي عليه سكونا ينزل بالليل وظلمه شيئا فشيئا، فيبتدئ خفيفا كالنوم الذي يلاعب اليقظة في الأجفان يجري وراءها وتشتد وراءه وكلاهما يدخل الباب الذي خرج منه الآخر فلا نوم ولا يقظة، ثم يثقل كأنه النسيان يداعب الذاكرة الضعيفة ثم ينبسط ثم يستحكم فيجعل ذلك الهر الذي يشرق النهار من عينيه كأنه في عمل لفظ ركيك يضطرب في لسان محتبس
1
فلا تلفظه الأرض ولا تسمعه السماء.
ناپیژندل شوی مخ