لا بد لك من التسليم والاحتمال على كل حال حتى نخلص من هذه النازلة بسلام.
قال عيسى بن هشام: ولما وقفنا أمام الكاتب لتحرير «ورقة التشبيه» سأل الباشا هل له من ضامن يضمنه، فقدمت نفسي لضمانته فلم يقبلوا مني إلا بتصديق «شيخ الحارة» فحرت في أمري، ومن أين أجد «شيخ الحارة» في الحال؟ فألقى بعض العساكر في أذني أن اخرج فإنك تجد «شيخ الحارة» بالباب فأعطه عشرة قروش للتصديق على الضمانة، فخرجت ولحقني ذلك العسكري فدلني على شيخ الحارة وتوسط بيننا في مناولة أجرة التصديق، ثم اشتغل عني بمشاركة العساكر في ضرب أرباب القضايا الذين علا صياحهم وعويلهم ليخرسوهم خشية أن يوقظوا المعاون من رقاده، ثم ما لبثوا أن رأيتهم قد امتنعوا عن الضرب في أقل من لمح البصر وتفرقوا مهرولين كأن نازلا نزل عليهم من السماء، ووجدت من كان من بينهم أشد إيذاء لعباد الله وأعظم حرصا على راحة المعاون في منامه قد هجم على باب الحجرة، فدفعه بكل قواه ففتحه وأخذ يهز السرير هزا عنيفا، فاستيقظ المعاون فزعا، وعلم أن «المفتش» قد شوهد داخلا من باب القسم، فأسرع إلى ثيابه فلبسها في لحظة وهرول إلى استقباله، فلما رآه وقف «وقفة النظام»، ولكن كان من نكد طالعه أنه ذهل عند لبس «الطربوش» فلم يجعل زره جهة اليمين بل تركه فوق الجبهة، وكان الشعر قد تجدد في عارضيه؛ لأنه لم يتمكن من حلقه في يومه، فأخذ المفتش عليه ذلك ودخل إلى الحجرة مغضبا فاشتغل بكتابة تقرير لمحاكمة المعاون على مخالفته في الزي «للأوامر المستديمة».
ولما رأى الباشا سكون الضرب والصياح مرة واحدة، وما تولى العساكر من الخوف والاضطراب، وما شاهده من حركات المعاون، سألني عن شأن هذا الداخل الذي أورث ذلك الانقلاب، فأعلمته بأنه «المفتش» جاء إلى «القسم» للتفتيش والتنقيب في «الأحوال» والنظر في شكوى الشاكين، وتطبيق أعمال العمال على ما يقضي به القانون والنظام، فقال: إذا فلندخل إليه لنعرض عليه ما أصابنا من الإهانة، فدخلنا فوقفنا أمامه فوجدناه يكتب في تقريره، فالتفت إلينا وسألنا عن أمرنا، ولما بدأنا بذكر القصة أمر أحد العساكر بإخراجنا من حضرته، ثم رأيناه قد وضع التقرير في جيبه بعد كتابته ونزل مسرعا لم يلتفت في التفتيش والتنقيب لغير زي المعاون، ولما انصرف عاد الضرب والصياح والضجيج في أنحاء القسم إلى أشد ما كان عليه قبل حضوره، وصاح أحد المضروبين في شدة ألمه بأنه لا بد أن يشتكي عمال القسم إلى «النيابة»، فدخل أحد العساكر إلى المعاون ليخبره بما يقول الرجل فوضعت أذني عند الباب فسمعت المعاون يحادث نفسه بقوله: «ما هذه الخدمة وما هذا الذل؟ ولعنة الله على ضرورة الحاجة في المعاش، ومع ذلك فالحمد لله؛ إذ كان هذا المفتش من الأجانب ولم يكن من «أولاد العرب» فهو خير منهم؛ لأن عجزه في فهم اللغة وجهله بالعمل جعله يقتصر في التفتيش على طربوشي ولحيتي، ولو كان من «أولاد العرب» لاطلع على الاختلال الواقع في القضايا وما يرتكبه عمال القسم من مخالفة «الأصول»، ثم التفت إلى العسكري وسمع منه ما ينقله إليه من قول ذلك الرجل الذي عزم على الشكاية إلى «النيابة» فازداد همه واشتد غضبه، فأمر بحبس المتهمين جميعا أربعا وعشرين ساعة، والباشا داخل فيهم فذهبت إلى المعاون وكلمته فيه ليطلقه بعد ضمانتي له فأبى ذلك، وقال لي بوجه عبوس: الأولى أن يبقى في القسم إلى الغد حتى يكشف على «السوابق» ثم يرسل من هنا إلى النيابة. فدخل الباشا الحبس مع الداخلين.
النيابة
قال عيسى بن هشام: ولما تركت صاحبي في حبسه وذهبت إلى داري بت طول ليلتي في هم وأرق، وقضيت رقادي في اضطراب وقلق، لما أصاب الرجل من ضربات الدهر المتتالية وهو غريق في دهشته وحيرته لا يدرك مضي الزمن ولا يدري ما الحال، ولا يعلم بتغيير الأمور وما أحدثه الدهر بعد عهده وزوال دولته من تبدل الأحكام وانقلاب الدول، وكنت هممت أن أكاشفه بشرح الأحوال وتفصيل الأمور عند أول مصاحبتي له لولا ما دهمنا به القضاء المحتوم فأوقعنا فيما ألم بنا، ثم فكرت بعد ذلك فكان من حسن التدبير وسداد الرأي عندي أن يبقى الرجل جاهلا بالأمر حتى ينتهي من خطبه ويكون جهله بتغيير الأحوال قائما بعذره في التخلص من محاكمته، ثم عقدت العزيمة على أني لا أفارق صحبته بعد ذلك حتى أريه ما لم ير، وأسمعه ما لم يسمع، وأشرح له ما خفي عليه وغمض من تاريخ العصر الحاضر، لأطلع على ما يكون من رأيه فيه عند مقابلته بالعصر الماضي، ولأعلم أي العهدين أجل قدرا وأعظم نفعا وما الفضل الذي يكون لأحدهما على الآخر، فبكرت إلى القسم في اليوم الثاني وحملت معي ما يليق بصاحبي من الثياب ليرتديها عند خروجه من حبسه، فوجدت العسكري يستعد به للذهاب إلى قلم «السوابق» في دار المحافظة، فلما بصر بي ناداني بقوله:
الباشا :
ما هذه الخطوب والملمات، قد كنت أظن أن ما وقع لي أمس كان لسخط ولي نعمتنا الداوري الأعظم وغضبه على عبده بمكيدة كادها لي أعدائي أو فرية افتراها حسادي؛ فلذلك صبرت لحكم الضرورة، وامتثلت على تلك الصورة، حتى أتمكن من التشرب بالأعتاب، والمثول بين يدي مالك الرقاب، فأزيل الشبهة وأنفي الريبة مما رماني به الساعي والواشي، وأجلي له حقيقة عبودتي وإخلاصي، فيضاعف علي رضاه لحسن ما قمت به من الطاعة في احتمال هذا الهوان.
طال مني تحمل خلت أني
قابض من أذاته فوق جمر
ثم إني أعمد بعد ذلك إلى إفشاء العقاب، عقاب القتل والصلب في هؤلاء الأدنياء السفهاء والأشقياء الأغبياء جزاء ما اجترؤوا عليه في معاملتي واقترفوه من جهل منزلتي، ولكني سمعت في الحبس - ويا سوء ما سمعت - وعلمت - ويا شر ما علمت - أن الدول دالت والأحوال حالت، وأنكم أصبحتم في زمان غير ذلك الزمان، وفي حال من الفوضى يصح فيها قول ذلك المكاري: «إنه هو والباشا في المنزلة سواء» وتلك التي:
ناپیژندل شوی مخ