ثم إنهم انتقلوا من التلاعن والتشاتم إلى التضارب والتلاكم، فقام الحاضرون على الأقدام، لمشاهدة ميدان النزال والخصام، ثم توسط رجال الشرطة بينهم لفض المخاصمة، وسوقهم إلى المحاكمة، بعد أن تمزقت الثياب تمزق الأوراق، وتخضبت الوجوه بالدم المهراق، فصارت الأفراح أتراحا، وانقلب الغناء نواحا، وقلت لصاحبي: هلم بنا إلى الفرار، من مواقف التهمة والعار، وخرجت به أسوقه أمامي، وأقول له في بعض كلامي: لقد حق لك بعد الذي رأينا ونظرنا، وبلونا وخبرنا، أن تلتهب بالغضب والحنق التهابا، أو يذهلك الدهش والعجب فلا تعي جوابا، وهل بقي بعد ذلك فرق بين سرور الدنيا وحزنها، أو فضل لظهر الأرض على بطنها، فأجابني بلسان الحكيم المدرب، والحليم المهذب، وهو يبتسم استهزاء، ويهز كتفيه ازدراء: لم يبق في بفضل الحكمة فضل للسخط والغضب، وعجبي اليوم مما أرى يكون من العجب.
العمدة في الحديقة
قال عيسى بن هشام: وتمكن من الباشا حب الاستكشاف والاستطلاع، لدرس الأخلاق وسبر الطباع، وتبدلت الوحشة عنده بالائتناس، في مخالطة الناس، فصار يلح علي ويلج في الطلب، أن أذهب به في هذا السبيل كل مذهب، وأنا أداوره وأحاوله، وأماطله وأطاوله، وهو لا ينفك يستنجزني ويستقضيني، وإذا استعفيته لا يعفيني، فقلت له: لم يبق أمامنا من المجالس والمنتديات، إلا ما اشتملت عليه الأزبكية من المخجلات المنديات،
1
وما تضمنته من صنوف الرجس والنكر، وفنون الفسق والسكر، وأنا أجلك أن أسلك بك مسالك الظنة والتهمة، وأن أحلك محال الريبة والشبهة، وأربأ بسنك وقدرك أن تختلط بتلك الزمر، وتدخل معهم في تلك الغمر، وتقسر نفسك الشريفة على ما لم تألفه من مثل ما يعملون، وشروى ما يفعلون،
2
فلا نأمن حينئذ نقد الناقدين، وطعن الطاعنين، وقاسمته إني لك لمن الناصحين، فقال: ألي تقول ذلك وقد آتيتني من دروس الحكمة العالية، وضروب الفلسفة السامية، ما أزدري معه عذل العاذلين، وأحتقر به لوم الجاهلين؟! ولن يضير النفس الشريفة الطاهرة، أن تجاور النفس الخبيثة الفاجرة، وقل أن يعدي المريض الطيبب، وتذهب رائحة الدفر،
3
برائحة الطيب والإمعان في رؤية النقيصة والرذيلة، يزيد النفس الفاضلة تمسكا بالفضيلة، ولا يعرف قدر الرشد والهداية، إلا من نظر في أعقاب الضلالة والغواية، وبالظلمة يعرف فضل الضياء، وبضدها تتبين الأشياء، ذلك من فضل ما علمتني مما علمت رشدا، ولقد كان من أدب الحكام في أيام دولتنا، وزمن صولتنا أن يغيروا من هيئاتهم، ويستروا من سماتهم، ويبدلوا من أزيائهم المعروفة، بأزياء غير مألوفة؛ ليتمكنوا من مخالطة الناس على اختلاف أشكالهم ويقفوا على جلية أمرهم وحقيقة أحوالهم، فلم يكن ذلك مما يضر بسمعتهم، أو يحط من رتبتهم، عند ظهور أمرهم، ووضوح سرهم، فلا عليك إذا أن تسلك بي ما شئت من المسالك، ولا تخش علي شيئا من تلك المعاطب والمهالك.
قال عيسى بن هشام: ولما لم يبق لي بد من امتثال حكمه، وتنفيذ عزمه، قصدت به من الأزبكية روضتها الغناء، وحديقتها الفيحاء، فلما وصلنا إلى بابها، ووقفنا عند «دولابها»، وضعت فيه أجرة العبور، كما توضع النذور في صندوق النذور، ودرت فيه دورتي ودار الباشا دورته، فقال لي وهو يدافع الغضب وسورته: هل كتب على الداخلين في هذه الجنة الزاهية أن يدور الإنسان دورة الثور في الساقية؟ فقلت له: نعم شاع التخوين بين الناس في جميع الأشياء، فاخترعوا لهم مثل هذه الآلة الصماء؛ لتكون رقيبا عتيدا، لا يستطيعون معها اختلاسا ولا تبديدا، فهي ترقم من الداخل عند كل دورة، ما ينقده الداخل فيها من الأجرة فلا يضيع منه مثقال ذرة. ولما جاوزنا الباب أعجب الباشا حسن المنظر وازدهاه، وراقه بهاء المكان واستهواه، وتملكه الابتهاج وتولاه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله! لمن هذه الجنة من كبراء البلد؟ قلت: هي ملك كل واحد وليست بملك أحد، أنشأتها الحكومة من «المنافع العامة» لنزهة الخاصة والعامة. ثم سرنا نطوف في أنحاء الحديقة، بين أشجارها الوريقة، وأغصانها الرشيقة، وأزهارها الأنيقة، والباشا يهتز طربا ويميل عجبا، لحسن هذا المنظر العجيب، والمنبت الخصيب، ثم وقف بنا وقفة بين برد الظلال وخرير الماء، ورفع ببصره يقدس باسط الأرض ورافع السماء، ثم رأيته ينحني للركوع انحناء القوس بعد أن أنشد قول حبيب بن أوس:
ناپیژندل شوی مخ