ووضعت السماعة وعادت تفكر فيما يمكن أن تفعله. وضاقت بالبقاء في حجرة مغلقة، فقامت إلى الشباك ففتحته. إنه هناك، ذلك الفتى في البيت المقابل الذي لا يكف عنها، فلا تجدي معه كل هذه القسوة التي تعامله بها. ونظر إليها وابتسم، فأقفلت الشباك وعادت إلى الانتظار مرة أخرى، حائرة بفرحتها. جلست إلى مكتب زوج أمها؛ فهو مكان لا تستطيع الجلوس فيه إن كانت أمها أو زوج أمها بالبيت. وراحت تفتح الأدراج وكأنها تقوم بمقامرة تريد بها أن تفتح المنافذ لفرحتها الحبيسة. وفجأة التقت بمسدس ملقى في الدرج، ونظرت إليه طويلا، وكأنها لا تصدق أن هذه الآلة الصغيرة تقتل وتقطع حياة إنسان ضخم يملأ الحياة، ويروح ويجيء ويتكلم، وقد يكون ذا سلطان فهو يتحكم في نفوس البشر، فهذا يعيش وهذا لا يجد العيش. نظرت إلى المسدس الصغير؛ كيف تستطيع هذه الآلة الصغيرة التي تشبه اللعبة، بل هي أدنى إلى فكرة اللعب، أن تجتث حياة إنسان من بين أهله وذويه؟! وكيف تقضي عليه حتى وإن كان جبارا ذا سطوة ونفوذ وسلطان؟ كزوج أمها مثلا، ذلك الذي يسيطر عليها في عنف وبأس وجبروت، والذي رأت موظفيه في الشركة وهم يرجفون من ذكر اسمه رجفة تتضاءل أمام هولها رجفة العابد المؤمن العميق الإيمان إن ذكر أمامه اسم الله أو اسم الشيطان. بمسدس كهذا، نعم كهذا. بل برصاصة منه صغيرة دقيقة أهون في سمكها من سمك هذه الفتحة في مقدمة المسدس، حتى ولو كان زوج أمها. وسارعت تقفل الدرج وعادت إلى فرحتها وإلى حيرتها بهذه الفرحة. وفجأة طغى تفكيرها على ضجيج فرحها؛ من تنتظر؟ أتنتظر زوج أمها الشرعي؟ وماذا سيفعل؟ قد يتفضل فيخرج كلمة مبروك، وكأنه يفرج حنجرته عن دمية ميتة لا تحمل معنى. وقد لا يقول شيئا إلا أن يموء، أما أمها فقد تفرح حقا، ولكن ماذا تراها فاعلة أمام زوجها الباطش الجبار؟ قد تضحك وقد تقول مبروك يا حبيبتي، ثم تمسك بعنان عواطفها في عنف؛ فقد أمرها زوجها ألا تدلل ابنتها وهي له مطيعة. ماذا ترجو إذن ناهد لفرحتها؟ لا شيء؛ فقد عاشت في ظل زوج أمها لا تجد لفرحتها عند أمها أو زوجها مكانا، أو تجد لحزنها عند أي منهما يدا آسية أو قلبا عاطفا، كالزهرة البرية التي تشق طريقها في الجو وحيدة فريدة، لا من يؤنس ولا من يتعهد. إنها ما تزال تذكر أباها ولكن ماذا تفيد الذكريات مع الواقع الأليم، إلا أن تزيد الألم قسوة وعنفا. فكم كانت ترجو أن تنسى حنان أبيها حتى لا تستهول قسوة زوج أمها! فلو كانت لم تر الحنان لما عرفته ولما احتاجت إليه، ولحسبت أن الدنيا كل الدنيا ليس فيها آلام تشقى بها من صلف وترفع وتأنيب وخشونة. ولو كانت تجد أباها لاستطاعت أن تقول نجحت، ولاستطاعت قبل ذلك أن تقول له الكثير الذي لم تستطع أن تقوله لأحد، ولاستطاعت من بعد أن تقول الكثير الذي تعرف أنها تحتاج أن تقوله، ولكن لمن تقول؟ ألا بد لها أن تقول؟
وما الحياة إن خلت من القول وقلب يعطف على قلب ونفس تؤنس وحشة نفس؟
ودخل زوج أمها وطالعته هي فرحة مبتدرة: نجحت يا عمي.
ونظر إليها لحظة، ثم قال: هيه! وما لبثت أن جاءت أمها فابتدرت قائلة: نجحت يا نينا.
وفي حركة لا شعورية احتضنتها أمها في نشوة طبيعية وهي تقول: مبروك، ألف مبروك. وأحست ناهد أن عيني أمها التقتا بعيني زوجها. أحست بلقاء العيون في صوت أمها وهو يعاجلها قائلا في شيء من الجفاء المصطنع: كان لا بد أن تنجحي. أكنت تنتظرين غير هذا؟!
وانسحبت الأم من أحضان ابنتها وقصدت إلى غرفتها، وما لبث زوجها أن تبعها، وخيل لناهد أنه يريد أن يعاتبها على ما بدا منها من فرحة لم تحكم زمامها. وأطرقت ناهد لحظات، ثم أحست أنها تريد أن تفتح الشباك، ولا تدري لماذا أرادت أن تفتح الشباك، ولكنها توجهت إليه وفتحته بيد ثابتة كمن صممت على شيء. وفي الشباك المواجه وجدت الفتى يطاردها بابتسامته، ووجدت ابتسامته مستقرة على فمه كما تركها منذ أغلقت الشباك في المرة الأولى. وابتسمت، ولم يصدق الفتى عينيه فراح يفرك عينه، وعاد ينظر إليها وقد رسم الابتسامة على فمه، فوجد الابتسامة ما تزال على شفتي ناهد لم تتركها، ورقص الفتى في الشباك، فضحكت ناهد من أعماق قلبها، وكأنها أحست أنها قالت «نجحت» للشخص المناسب، وأشار لها الفتى أن يلتقيا، وأومأت أن نعم، وأشار إليها أن الآن، وأومأت أن نعم، وقصدت إلى أمها فأبلغتها أنها تريد أن تزور ليلى، ووافقت الأم ونزلت إلى الطريق.
ومنذ ذاك اليوم لم تكن تحتاج إلى أحد تفضي إليه بفرحتها، أو تزجي إليه بآلامها؛ فقد أغناها ماجد عن هذه الحاجة؛ فهو كل شيء لها في الحياة. شاب من الريف يقيم وحده في القاهرة ليكمل تعليمه في كلية الآداب قسم الفلسفة، عذب الحديث، عطوف عليها، يتلمس رغباتها لينفذها، ولم تكن رغباتها كثيرة؛ فما كانت تريد إلا أذنا وقلبا، وقد كان ماجد ما تريد.
وبيت ماجد خال وبيتها هي لا رقيب فيه؛ فالأم كثيرة الخروج، وزوج الأم كثير المشاغل.
واستطاعت الصلة بينها وبين ماجد أن تظل بريئة فترة من الزمان، ولكن البيت الخالي، والرقيب الغائب، والحنان من ماجد، والقسوة من زوج الأم؛ كل هذا استطاع أن يجعل الصلة غير بريئة.
ولم تجزع ناهد أول الأمر، ولكن عارضا عرض كان لا بد أن تجزع له؛ لقد أوشكت أن تثمر هذه الثمرة التي يتمناها كثير من الآباء والأمهات، فلا يصيبون من أمنياتهم إلا خيبة، والتي يتمنى كثير آخرون من ذوي الصلات المستورة أن تظل مستورة، فتتمرد عليهم الطبيعة وتصمم على أن تهب لهم ما هم عنه في غنى أي غنى. كانت ناهد تحمل ثمرة بحثها عن الحنان عند ماجد.
ناپیژندل شوی مخ