أقمت هناك ما أقمت، لا تستطيع زوجتي أن تكسر الأسوار لتعيدني إلى ملالة حياتي، ولا يستطيع أولادي أن ينفذوا إلي ليحيطوني بملالة مطالبهم. وطبعا لم يحاول الزملاء أن يبلغوا مكاني؛ فما كانوا حريصين على ملالتي في شيء.
ثم فجأة قلب لي القدر ظهر المجن، وانبثقت في صدر طبيب المستشفى عداوة شديدة، فإذا أنا فجأة طريد من المستشفى مرة أخرى إلى الحياة، إلى الملالة، ملالة تملأ وقتي، تملأ يومي وليلي، تملأ أمسي وغدي.
شوار وهيبة
قالت أم وهيبة وهي تعطي لزوجها عبد الباقي أفندي طربوشه: فداك مائة بقرة يا عم عبد الباقي أفندي، فداك مائة بقرة.
ولم يجد هذا القول مع عبد الباقي أفندي، لم يجد في شيء؛ لقد كان حزينا كئيبا، وعاد إلى الحديث الذي قاله ألف مرة: يعني يا ستي لو أننا جهزنا وهيبة بقرشين سلفة، وجعلناها مثل جميع البنات اللواتي تزوجن في هذه البلدة، ماذا يحدث؟
وقالت زوجته في غضب: أنرجع إلى هذا الحديث ثانية؟ - ولماذا لا نرجع؟ - يا رجل! أترضى أن تكون ابنتك مكسورة الخاطر أمام أهل زوجها؟ يا عبد الباقي أفندي سعادة الزوجة في حياتها كلها متوقفة على ما تأخذه معها من أثاث في يوم زواجها. - سبحان الله! أهذا كلام يقوله عقلاء؟! - منذ يدخل الشوار بيت الزوجية يعرف الزوج إن كانت زوجته عزيزة على أهلها أم هي هينة رخيصة. - ولماذا لا تقولين إنه يعرف إن كان أهلها فقراء أم أغنياء؟ - الغنى والفقر لا يهم في هذا؛ حتى الفقير يبذل كل جهده ليقدم إلى ابنته جهازا يسترها أمام زوجها وأهل زوجها. - إذن نستر وهيبة أمام زوجها وأهل زوجها، وننفضح نحن أمام الدنيا جميعها. - لا قدر الله يا عبد الباقي أفندي. مستورة والنبي مستورة. - ومن أين يأتي الستر يا سلمى؟ من أين؟ البقرة التي لا نملك غيرها نبيعها وتقولين مستورة؟!
وما بقرة؟ ما قيمتها؟ يا عبد الباقي أفندي أنت لا تعرف حماة ابنتك؛ نبوية طويلة اللسان، وإن رأت الشوار قليلا ستجعل أيام ابنتك كلها سوداء، غير الفضيحة أمام الناس والهزء والسخرية.
يا ستي الحماة لا ترضى أبدا. والله إن أثثت لها قصرا لن ترضى. نحن نقدم ما في وسعنا ونترك كلام الناس للناس. استرينا يا سلمى، استرينا فقد عشنا عمرنا مستورين.
يا رجل وهل البقرة هي التي تسترنا؟! - البقرة شيء مهم في حياتنا؛ اللبن والجبن، الحرث والري، وشعوري أن عندي بقرة يجعلني أحس بالدفء وبأني مستور. اتركيها لي يا سلمى. - لا والله هذا كلام لا ينفع أبدا، وماذا أفعل أنا أمام الناس؟ أكل هذا من أجل بقرة؟ الذي جعلك تشتري بقرة يجعلك تشتري الثانية. - من أين؟ - من وظيفتك. أنت مدرس وعليك العين. - أي عين؟ المرتب وفقط. - قد يأتيك بعض التلاميذ لدروس خصوصية. - هل جننت؟! نحن هنا في أقصى الصعيد، التلميذ الذي يأتي إلى مدرستي يقطع من أبيه مبلغا هو في أشد الحاجة إليه، والتلاميذ لا تأتي إلى المدرسة إلا بشق الأنفس، وأنت تريدين أن يأخذوا دروسا خصوصية، هل جننت؟! - سمعت عبد السميع أفندي يحكي لك عن الدروس الخصوصية. - عبد السميع أفندي في القاهرة، القاهرة شيء آخر، هنا لا أمل لنا إلا في البقرة. اتركيها لي يا سلمى. - اسمع، بقاء البقرة يعني ذهابي أنا إلى بيت أبي، ما رأيك؟ - ماذا؟! ماذا تقولين؟ - ما سمعت. - هل جننت؟! - جننت عقلت هذا شأني. - بعد هذا العمر كله، بعد عشرين سنة زواج. - وبعد مائة سنة إذا لزم الأمر. أنا لا أحتمل لسان نبوية، فلتسخر منك وحدك إذا شئت، أما أنا فلا. - أمري لله نبيع البقرة. - إذن فأسرع، يجب أن تذهب إلى السوق ونحن ما زلنا في باكر الصباح. - ألا أتناول إفطاري؟ - حين تعود، حين تعود يا عبد الباقي أفندي. توكل على الله. - ألبس الحذاء. - أسرع إذن أسرع. اسم النبي حارسك وضامنك. من يراك يظنك ناظر مدرسة. طول عمرك وأنت وجيه والنبي يا عبد الباقي أفندي. - بالبقرة أكون أوجه. - يا رجل توكل على الله، الأرزاق عنده. - حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.
وأمسك عبد الباقي أفندي بحبل البقرة وخرج إلى الطريق. السماء لم تفرج بعد إلا عن شعاعات قليلة من الشمس، وأنفاس الزرع الأخضر تملأ الأجواء. وانتهب عبد الباقي أفندي شهيقا عميقا. الله، ما أجمل عبير البهائم! حسنين أبو سعد يأخذ جاموسته إلى الحقل، وصالح أبو عرابي يسحب بقرته، وداود أبو إسماعيل ... لقد اشتريت بقرتي يوم اشترى داود بقرته. أيام! كان القطن في تلك السنة قد رمى تسعة قناطير، وكان ثمنه خمسة عشر جنيها، قلت أشتري هذه البقرة أحرث بها الفدانين وأعلقها على الساقية وأشرب لبنها و... و... ولكن سلمى تريد أن تبيعها، لا من أجل وهيبة، ولكن من أجل نبوية. لو لم يكن لمحمدين أم لما بعت أنا البقرة. طبعا الشوار لا بد أن يكون كاملا حتى نغيظ نبوية. سلمى لا تريد أن تسكت نبوية وإنما تريد أن تغيظها، تريد أن تريها أنها جهزت بنتها بما لم تستطع هي أن تجهز به بنتها خديجة. نبوية طيبة، ولكن سلمى مصرة على أن تقول عنها إنها طويلة اللسان. وما لها لا تفعل ما دامت ترى في قولها هذا حجة تجعلني أبيع بقرتي؟ حسبي الله ونعم الوكيل. وهل لا بد لوهيبة أن تتزوج؟ وماذا أصنع بها إن لم تتزوج؟ الحمد لله أنها تزوجت. أتراها ستكون سعيدة في زواجها؟ والله إن زعلها محمدين ... ماذا أفعل؟ إنه طويل عريض لا قبل لي به. وهل الحكاية قوة؟ أجعله هزوة في القرية جميعها. أعطيه ابنتي وأبيع بقرتي لأجهزها ثم هو بعد ذلك يزعلها! ولكن محمدين طيب، لو لم يكن طيبا لما طلب وهيبة. عبد الدايم أفندي كان يريد أن يزوجه ابنته زكية، وعبد الدايم أفندي أغنى مني بكثير، وهو أيضا أقدم مني في المدرسة، وقد يصبح ناظر المدرسة هذا العام أو العام القادم، ومحمدين مدرس جديد يحتاج إلى مساعدة الناظر وتقاريره ليحصل على العلاوات، ولكنه لم يفكر في زكية وخطب وهيبة. البنت وهيبة حلوة ومؤدبة وتعرف القراءة والكتابة، ولكن زكية أيضا حلوة، نعم الحق أنها حلوة، وهي أيضا تعرف القراءة والكتابة. ولكن ما شأننا نحن؟ لقد اختار محمدين عروسه وهيبة ولم يختر زكية. القلب وما يهوى، له في ذلك حكم. ترى كما تساوي البقرة؟ لن أبيعها بأقل من مائة جنيه، مائة على الأقل، ولعلي أستطيع أن أحتفظ بعشرين جنيها أو خمسة عشر أو حتى عشرة جنيهات لأشتري لنفسي حلة جديدة وطربوشا وحذاء. لم أشتر هذه الأشياء منذ أربع سنين. وهل تكفي عشرة جنيهات؟ أحتفظ بخمسة عشر جنيها. ترى هل أستطيع أن أشتري بقرة أخرى؟ من يدري؟ الغيب في علم الله. جميل أن يكون الغيب في علم الله؛ لو عرفت ما سيحدث لي غدا لأصبحت الدنيا كئيبة لا معنى لها ولا جمال. جمال الدنيا مفاجآتها. لعبة من الحظ تتكرر في كل يوم، بل في كل ساعة، في كل دقيقة، بل في كل ثانية، في كل خفقة قلب، في كل شهيق وكل زفير، بل في كل هنية تقع، بين الثانية والثانية، أو بين الشهيق والزفير. سمعت عن رجل خيل إليه أنه عرف مستقبله، وكان مستقبلا سعيدا، ولكنه مع ذلك انتحر؛ لقد فقدت الحياة سحرها في ناظريه فانتحر. ماذا يريد منها وقد عرف كل ما يخبئه له القدر وكل غد. انتحر. من يدري؟ لعلني أشتري بقرة أخرى، لعلني. من يدري؟ كم هي عزيزة علي بقرتي هذه! كم أحبها! ما للطريق مقفر هكذا؟ وحدي فيه أسير. وما الذي أخر الشمس عن الظهور؟ قليلة هذه الأشعة التي ترسلها الشمس، قليلة هي مع هذا القصب الذي يحيق بالطريق متشابك الجذور والسيقان. ماذا؟ ماذا أسمع؟ - قف. - من ... من أنت؟ - قف ولا تكثر الكلام. - أمرك يا عم. ها أنا ذا قد وقفت، ها أنا ذا قد وقفت. - تعال. - إلى أين؟ - تعال وأنت ساكت. - جئت. - اترك هذا. - ماذا؟! - اترك هذا. - أترك حياتي ولا أتركه. - ستترك حياتك إذن وتتركه. - هذه يا عم بقرتي أريد أن ... - لا تطل الحديث. اترك حبل هذه البقرة واتبعني. - أنا في عرضك. - لا تطل.
ناپیژندل شوی مخ