ورنا إلى زوجته، ترى أيرضيها هذا؟ كم هو قاس ذلك المجتمع. إن فعل ما يريد أن يفعل أصاب هذه الفتاة التي يشفق عليها بطعنة لا سبيل لها أن تنجو منها؛ ستتطاير الأقاويل وتتدافع لها الشائعات، إن العروس لا تعجبه. طعنة تصيب المرأة في أعظم ما تزهى به. أيهما أحسن لها عندها، أن يخلصها من حياة لم يكن لها يد في اختيارها، أم أن تظل زوجته ولا يقول الناس عنها إنها لم تعجب زوجها فرفض أن يتم الزواج؟ وأين كانت «لا» هذه قبل اليوم؟ لماذا خضع حتى تم هذا جميعه، ثم انتفض فجأة يريد أن يمحو ما كان؟ وهل يمحى؟ كيف؟ ما ذنب هذه المسكينة حتى ترمى إلى هذا الموقف الضنك؟ وما ذنبه هو؟
والموسيقى تتعالى والزغاريد تنطلق والأغاني تصدح والشعور بالفرح يفيض على وجوه الجميع إلا وجهين، وجهه وقد تشنجت عليه ابتسامة، ووجه العروس وقد جمدت على فمها ابتسامة مثل ابتسامته.
وانقضى الليل وتخافتت الموسيقى ووهنت الزغاريد، وتشتت الجميع وخلا الزوج إلى زوجته، وأقفلت من دونهما الحجرة، وكان بها كرسيان، وجلسا وهوم الصمت حينا، ثم طال هذا الحين، هو مطرق خزيان وهي مطرقة مذعورة، في رأسه دوامة من الأفكار وفي رأسها أمواج من الحيرة.
وفجأة نظر إليها وهم أن يقول شيئا ثم أطرق، وهمت هي أن تقول شيئا دون أن ترفع رأسها، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الصمت.
وأحس بطول الصمت وصمم أن يقول شيئا، أي شيء. ورفع رأسه وفتح فمه وفكر وفكر، وأخيرا قال دون أن يهتدي إلى ما يجب قوله: آسف.
ونظرت إليه في غير دهشة، وقالت دون تريث: وماذا تفيد آسف الآن؟ - وماذا كان يمكن أن أفعل؟ - ألست حرا؟ - وأنت؟ - أنا، أنا على كل حال لست مثلك. - إنني أمام أمي ...
ولم يستطع أن يكمل جملته. - لماذا؟ لماذا؟ - ليس لها غيري، وليس لي غيرها. - ولكنها حياتك. - المصيبة أنها حياتك أنت أيضا. - هل أمك قاسية إلى هذا الحد؟ - إنها تظن أنها رحيمة أكثر مما ينبغي. - ألا تؤمن بحريتك في الاختيار؟ - إنها تؤمن بحريتي التامة ما دمت لا أعصي أوامرها. - ولكنها حياتك. - هي لا تفصل كثيرا بين حياتي وحياتها. - وحياتي؟ - ستصبح حياتك هي حياتي وهكذا ترين أنها جميعا حياتها هي. - وماذا ستفعل الآن؟ - لقد تعودت مني الطاعة، ولا أظنني الآن أستطيع أن أتخلص من هذه العادة. - تعودت أن تطيع في شأن نفسك، أما في شأني أنا ...!
ونظر إليها طويلا، إنها حلوة، خيل إليه أنه يحبها، بل كاد يوقن أنه يحبها، هي الفتاة التي طالما كان يرسم صورتها لهواه، وهي مستكينة تشكو إليه الظلم الواقع عليها في غير عنف ولا ثورة، ولكن في حنان وفي دفء، ووجد نفسه يقول: أيغضبك أن تصبحي زوجتي؟ - لعلي كنت أتوق إلى هذا لو أنك سألتني وأنا لست زوجتك. - فلماذا لا تجربين وقد أصبحت زوجتي؟ - ألا تعرف؟ - نعم، أعرف. أتحبين غيري؟ - أبدا. - إذن؟! - أيرضيك أن أحس دائما أنك فرضت علي فرضا؟ أترضى لنفسك هذا؟ - لقد تعودت أن أرضى لنفسي ما لا أحب أن أرضى. - أيرضيك هذا لي؟ - أعرف أنني أحببتك. - أحسست. - ألا يكفيني هذا الإحساس؟ - وماذا عني أنا؟ - فأنت لا تحبينني؟ - وأنت زوجي المفروض علي؟! ... - جميلة هي الحرية. - أعرفتها؟ - تمنيتها. - فلماذا لا تسعى إليها؟ - لم أستطع فيما مضى. - فلا أمل لي إذن. - بل يخيل إلي أن هناك وميضا من أمل. - كيف؟ - لن تكوني زوجتي. - وأمك؟ - أطعتها في كل ما يتصل بي ولكني لن أطيعها فيما يتصل بك. - إذن فأنت تحبني حقا؟ - لقد أدركت هذا بإحساسك. أتعودت أن يكذبك إحساسك؟ - لا. - إذن؟ - أخشى أن يمنعك حبي عن تنفيذ ما تفكر فيه. - بل إن حبك هو الذي سيدفعني أن أنفذ ما أفكر فيه. - سنرى. - متى تريدين أن يتم هذا؟ - متى تشاء. - لا أريد أن يمسك أحد بسوء. - فمتى إذن؟ - بعد عام. - أليس طويلا؟ - متى تشائين؟ - نصف عام.
ونام على الأريكة ونامت على السرير، وظلت الأريكة مكان نومه ستة أشهر، ثم قال حسن لزوجته: أتدركين كم أحبك؟ - نعم. - وسيزداد يقينك اليوم. - إذن فأنت تذكر؟ - نعم. - إذن؟ - فأنت طالق، طالق لأني أحبك، نعم إني أحبك، ولعلك بعد أن تصبحي حرة، لعلك ترضين ... - لا تكمل. - أهو الرفض إذن؟ - لا، ولكن لا أريدك أن تطلقني بشرط. - لا، وبغير شرط. - وأمك؟ - سأطلقك.
ولم تمض ساعات حتى كان المأذون يحرر ورقة الطلاق، وكانت ابتسامة فرح ترفرف على شفتي سناء وأخرى على شفتي حسن، وكانت الدموع تنهمر من عيني أمه؛ لقد أدركت أنها فقدت سيطرتها عليه إلى الأبد.
ناپیژندل شوی مخ