قصد القرية جماعة، انتدبتهم إحدى الجمعيات الوطنية الخيرية لجمع التبرعات باسمها؛ لتحقيق مشروع وطني جليل، فكان من الطبيعي أن يقصدوا دار الشيخ أبي حمشو، وقد أصبح مشهورا في المنطقة؛ ليجمعوا فيها وجوه الضيعة وأغنياءها، وهكذا كان.
اجتمع الأهلون في تلك الدار المتواضعة، وأراد أحد المندوبين ممن يعرفون أبا حمشو، أن يحمسهم بإثارة حماسة شيخهم ونجدته؛ فوجه إليه الحديث سائلا: عرفت - أيها الشيخ أبا حمشو - بالكرم والنجدة والشهامة وبالغيرة على المصالح الوطنية، فلو كنت تملك ألف ليرة ذهبية، وكان هناك مشروع وطني جليل، أفلا تتبرع لهذا المشروع بنصفها؟
لم يسمع أبو حمشو كلام السائل حتى تواجد متمايلا والدموع تكاد تطفر من عينيه رقة وحنوا، ثم قال: بل أتبرع بها كلها، ألسنا للوطن؟ وأي خير ننتظر إذا لم يكن الوطن بخير؟! وما فائدة المال إذا كان الوطن متأخرا؟! حياتنا للوطن، يحيا الوطن.
صفق الجميع لأبي حمشو، وأخذوا يهزون رءوسهم، وشفاهم تفتر عن ابتسامة الإعجاب، وكأنهم يقولون متباهين: لم يخب ظننا بالشيخ.
أثر جواب أبي حمشو بالمندوبين فتحمس مندوب آخر، وسأل أبا حمشو بقوة وشدة: ولو ملكت قصرين عظيمين واحتاج الوطن لأحدهما فماذا تفعل أيها الوطني الغيور؟ - أقدم القصرين، وهل لنا عز إلا بعز الوطن؟! ومن يقدم حياته لوطنه لا يبخل بالقصور.
فازداد الإعجاب، وازداد التصفيق، واشتد الهتاف بحياة أبي حمشو الشهم الجواد.
وما زالت الأسئلة المماثلة تتوالى، وأجوبة أبي حمشو لا تتبدل بل تزداد قوة بنسبة ازدياد الإعجاب والتصفيق والهتاف، إلى أن خطر لأحدهم، ويظهر أنه لم يكن من المؤمنين بما يبذل الشيخ، ولعله كان خبيثا من الأذكياء، فسأله: ولو كنت تملك عشر دجاجات سمان، واحتاج الوطن لدجاجة منها، فهل تمتنع عن العطاء؟
هنا وقف الشيخ أبو حمشو حانقا، وقال: والله لا أتبرع ولا ببيضة من بيضها، يا هؤلاء، أرى أنكم لصوص تحاولون سرقة أموال الناس، فتعجب الحاضرون لا سيما عندما رأوا أبا حمشو يزداد انفعالا وغضبا، وسأله أحدهم قائلا: كيف تبرعت بالليرات الذهبية وبالقصور والضيع والكروم، ولا تتبرع ببيضة دجاجة من عشر دجاجات؟
ابتسم الشيخ أبو حمشو ابتسامة صفراء مرة، وأجاب: إنني لا أملك الليرات ولا القصور ولا الكروم ولا الضيع، فأتبرع لكم منها بقدر ما تشاءون، أما الدجاجات العشر فإنني أملكها وأستفيد منها، فهل أنا مجنون حتى أتبرع ببيضة من بيضها؟
لم يصل الكهل إلى موقف أبي حمشو على الوجه المبين آنفا حتى التفت إلى رفيقه الواعظ قائلا: وهل من فرق بينك وبين أبي حمشو هذا في موقفك منا؟! إنك تتألم لانخذال الحق وانتصار الباطل، ثم لا تتورع عن السير في ركاب الباطل عند أول بادرة تتعلق بفائدة ترجوها لأحد المقربين؟ وأبو حمشو تبرع بكل ما لا يملك على وفرته، ثم تراجع تراجعا مخزيا عندما توهم إمكان التبرع بما يملك على ضآلته، فما هو الفرق بينكما؟
ناپیژندل شوی مخ