إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت اليقين أطلت همسي
لقد قامت معركة صفين بين علي ومعاوية على الخلافة، وسالت الدماء غزيرة على أرض المعركة، فتحركت «الضمائر» تسأل: من المسئول عن هذه الدماء؟ إنه محال أن يكون الفريقان معا على صواب، وإلا لما اقتتلا، بل لا بد أن يكون أحد الفريقين على الأقل مخطئا. وبغض النظر عن أي الفريقين هو المخطئ، فالسؤال الذي تحركت له الضمائر عندئذ هو: ما حكم المخطئ الذي كان سببا في قتل مئات المسلمين؟ أيظل مسلما أم يكون قد خرج على إسلامه؟ وبهذا السؤال الذي انبثق من أرض المعركة، بدأت البذرة الأولى لأقوى حركة فكرية في تراثنا الإسلامي، وهي حركة المعتزلة، إن الضمائر التي أقلقها الوضع القائم وأفصحت عن قلقها ذاك، لم تكن ضمائر الأفراد المتحاربين واحدا واحدا على السواء، بل كانت ضمائر قلة قليلة، هي التي استطاعت التعبير عما كان يتردد في الصدور، أي إن ضمائر الفئة القليلة القادرة على الصياغة، التي توضح جوهر القضية المطروحة، كانت تتأرق أصالة عن نفسها ونيابة عن سواها.
ولا بد لي أن أذكر في هذا السياق أن هذا السؤال الخاص، بالحكم على من اقترف ذنبا كبيرا من المسلمين، لم يكد يطرح حتى أخذت الآراء تتشعب وتتعدد، فتكونت بذلك فرق (بكسر الفاء وفتح الراء) كثيرة، هي بمثابة «الأحزاب» الكثيرة التي تعددت، لا تكلفا واصطناعا، بل تكونت بطريقة تلقائية طبيعية، اقتضتها ضرورة الموقف: فهنالك سؤال خطير مطروح، والإجابات عليه كثيرة متضاربة، فماذا يحدث عندئذ سوى أن يتجمع أصحاب الرأي الواحد في جماعة واحدة، لتناضل آراء الجماعات الأخرى إلى أن يتبين الحق فيما هو مطروح أمام الفكر ليجيب؟
وفي دنيا الأدب والفكر أمثلة لا حصر لها، توضح لنا كيف يتصدى الكاتب للخطأ الذي يمس إنسانية الإنسان ليصححه، معربا في ذلك عن ضميره القلق أولا، ومعبرا عن ضمائر الآخر ثانيا؟ ولأختر مثلا واحدا من كاتبة أمريكية، نشرت قصة لها في منتصف القرن الماضي، عن قضية الزنوج في الولايات التي لم تكن متحدة بصورة كاملة عندئذ، ولقد أطلقت على قصتها عنوان «كوخ العم توما»، فما كادت تظهر حتى شدت إليها الأبصار والأسماع في أمريكا وفي إنجلترا، ثم ترجمت فور ظهورها إلى عدة لغات أوروبية أخرى.
كانت قضية الزنوج عندئذ مكتومة في الأفئدة أو كالمكتومة، يقرها الناس أو لا يقرونها، لكنها على كل حال لم تجد من يفصح عنها بالكتابة جهرا وعلانية، حتى قصدت لها «هارييت ستو» في قصتها تلك، وحسبك أن تعلم كم كان عميقا أثر كتابها، إذا علمت أن حربا أهلية بين شمال البلاد وجنوبها نشبت، لترغم أهل الجنوب على عتق ما يملكونه من رقيق، وانتصر لنكولن قائد الشمال، وذهبت إليه الكاتبة في معسكره تحييه، ولم يكن القائد قد رآها من قبل، فلما رآها مقبلة عليه بجسمها القصير النحيل، قال لأصحابه: «أهذه هي السيدة النحيلة التي أثارت هذه الحرب الضروس؟» ... هكذا ترى كيف تحرك ضمير إنسانة واحدة، فأحدث ما أحدثه، فلا يحق لنا أن نقول إن الكاتبة الواحدة هذه، قد عبرت عن قلق ضمير واحد، بل الأصوب أن يقال: إن ضمير أمتها كان كامنا في ضميرها، وسأكتفي بنقل مشهد واحد قصير، عن قصة «كوخ العم توما»؛ ليرى القارئ قبسا من هذا العمل الأدبي العظيم، وهو المشهد الذي تحدى فيه العامل الزنجي «العم توما» سيده «سيمون لجري»:
أخذ العاملون من الرقيق يتقاطرون إلى الغرفة، التي جلس فيها سيدهم ليراجع موازين السلال، التي جاءوا يحملونها مليئة بالحصاد، أخذوا يتقاطرون واحدا أو واحدة في أثر واحد، بأجسام أنهكها المرض والضعف، حتى لم تكد تستقيم، جاء دور العم توما، فوضع سلته على الميزان وأجيز، فدخل ليقف مع من سبقوه إلى قاع الغرفة ينتظر الآخرين، لكن العم توما قد أخذ يترقب بلمحات من عينيه قلقه الوميض، خوفا على امرأة زميلة، يعلم أن سيدهم يتربص بها، وجاء دور هذه المرأة التي أوشك جسدها أن يكون حطاما، بسلتها مرتعشة ترتجف جوارحها من الفزع، ووضعت سلتها على الميزان، وكانت كاملة الوزن كما رأى السيد نفسه ورأى من وقف لينظر، لكن السيد ادعى الغضب، وصاح في المرأة قائلا: ما هذا أيتها البهيمة الكسول؟ أمرة أخرى تأتين إلي بسلة منقوصة الميزان؟ ... تعال يا توما واضرب هذه البهيمة بالسوط؛ لتعلمها كيف تمتلئ السلال!
قال العم توما: عفوا سيدي، إنني لا أستطيع ذلك، فهو ما لم أتعوده وما لست أقوى عليه! فنزع السيد «لجري» حزامه، وأخذ يجلد به توما جزاء عصيانه، ثم أوقف الضرب لحظة، ليسأل فيها العم توما قائلا: أرأيت كيف يكون جزاء العصيان؟ أتجرؤ بعد الآن أن تقول إنك لا تقوى على فعل ما آمرك بفعله؟
قال العم توما: نعم يا سيدي، قالها وقد رفع يده؛ ليمسح دمه السائل على صدغيه، ثم مضى يقول لسيده: إنني لأعمل طوال ليلي ونهاري، إذا شئت ذلك يا سيدي، نعم إنني لأعمل ما بقيت في جسدي حياة، أما هذا الذي تأمرني به فلست أراه مما يجوز فعله؛ ولذلك فلن أقدم عليه أبدا، أبدا.
هنا سرت في الحضور دهشة مما قاله العم توما لسيدهم، وأخذوا ينظرون بعضهم إلى بعض نظرات تتساءل: أية زوبعة على وشك أن تعصف بنا جميعا؟!
ناپیژندل شوی مخ