ضمير الأمة في كتابها
للناس أن يختلفوا في كثير جدا من شئون الحياة الجارية، دون أن يكون (للضمير) دخل في هذا الاختلاف، وبالتالي، دون أن يكون للكاتب الحق في ذلك الدور المطلوب، فلهم - مثلا - أن يختلفوا في أفضل الطرق لتنظيم المرور ماذا تكون؟ هل تسير السيارات في هذا الشارع أو ذاك في اتجاه واحد أو في اتجاهين؟
وكيف نخفف حدة الزحام في ساعات الذهاب إلى العمل والانصراف منه؟ بل إن للناس أن يختلفوا فيما هو أخطر من ذلك شأنا، كأن يختلفوا في خير نظام لتقسيم المراحل التعليمية، وفي أنفع المناهج الدراسية وهكذا، لهم أن يختلفوا في نظام الفصل الدراسي الواحد في الجامعة أو نظام الفصلين، وهكذا قل في أمثلة أخرى كثيرة من نظم الحياة الاجتماعية؛ فليس كل اختلاف بين الناس محركا للضمائر، وإذن فليس كل اختلاف بين الناس في شئون الحياة الجارية، مما يستدعي بالضرورة أن يكتب الكاتب «الأديب»؛ لأن أمثال هذه الأمور متروكة لمن يعنون بتقصي الوقائع وإحصائها ومعالجتها على النحو الأفضل، بدءا من التقارير الصحفية وانتهاء إلى البحوث العلمية، لكنها أمور - كما قلت - لا دخل لضمائر الناس فيها، والفصل فيها إنما يكون للعلم وللتجربة.
لكن هناك ضروبا أخرى من المواقف، ما إن يختلف في شأنها الناس حتى تتأرق الضمائر في الصدور، حافزة أصحابها إلى الجهر بالرأي الذي يرونه صوابا، ثم الوقوف دون هذا الرأي مهما تطلب ذلك من كفاح وجهاد، وتضحية بالراحة أو بالمال أو حتى بالحياة نفسها، وتلك هي المواقف التي تمس إنسانية الإنسان، كالحرية والعدل والمساواة، وما إليها من قيم عليا تحدد للإنسان أهدافه البعيدة، وتخطط له طريق السير نحو تلك الأهداف.
فمن حق الإنسان العاقل أن يبدي رأيه المشروع، بالقول أو بالفعل، دون أن يكون لكائن من كان أن يحرمه من هذا الحق بحجة أنه أعلم منه بالطريق الأسلم، فالفرق الأساسي بين الحر والعبد، هو في أن الحر يقرر لنفسه القرار ليكون مسئولا عنه، على حين أن العبد يقرر له سيده؛ ولذلك يكون سيده هذا مسئولا عن عبده أمام القضاء، فإذا اعتدى معتد على حق الناس في حرية التعبير عن وجهات أنظارهم، لم يكن ذلك من قبيل الاختلاف على طرق المواصلات، ومراحل التعليم ورسوم الجمارك وجباية الضرائب، لا، بل هو من صنف آخر، يثور من أجله «الضمير» ويكتب «الأديب»، أو - على الأقل - ذلك هو ما ينبغي أن يكون.
إنه لمن عجب أن الناس جميعا، في كل بقعة من بقاع الأرض، وفي كل عصر من عصور التاريخ، قد اتفقوا على مجموعة من القيم العليا، لا يحول بينهم وبينها إلا أن يتدخل سلطان ذو بطش، يرى أن مصلحته تقتضي ألا يمارس الناس حياتهم في ظل تلك القيم، وحتى في هذه الحالة، فإن ذلك السلطان الباطش لا يجرؤ على نسخ قيمة من تلك القيم، إنه لا يقول للناس مثلا: إنني جئت إليكم داعيا إلى الظلم والكبت، بل تراه - بكل سلطانه وقوة بطشه - يراوغ زاعما أنه يريد العدل كما يريده كل إنسان، ويريد الحرية وهكذا، إلا أنه يرى العدل متحققا في كذا وكيت، ويرى الحرية متمثلة في هذا وفي ذاك، إنه لا ينفي «القيمة» العليا المعينة، لكنه يتستر وراء اسمها بما شاء لنفسه من تأويل وتفسير.
لقد وقفت لحظة أفكر، عندما كنت أقرأ قصة «دون كيخوته »، وطالعت الموقف الذي جمع طائفة من اللصوص قطاع الطريق، بعد أن نهبوا ما نهبوه ذات يوم وجلسوا ليقتسموه، فحدث بينهم خلاف على طريقة التقسيم، وبدأت بينهم المعركة، فجاء رئيس العصبة يستفسر الأمر، فقالوا له: إننا نريد «العدل» في قسمة الغنائم! اللصوص يريدون العدل فيما بينهم! وهكذا ترى القيم الإنسانية العليا أمرا لا خلاف عليه، بين الأبرياء وبين المجرمين على حد سواء.
ولو كان الأمر مقتصرا على فرد واحد، لوجد هذا الفرد من ضميره ما يهديه إلى الصواب، وحتى إذا خانته إرادته وارتكب الخطأ، فإنه عندئذ يعلم من وحي ضميره، أنه إنما فعل ما لم يكن يجوز له أن يفعله، لو أتيحت له الإرادة القادرة.
ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الجماعة من الناس، فها هنا إذا ما اعتدى المعتدون على القيم الإنسانية العليا، فقد لا يتحرك الضمير بالقوة الكافية في هذا الفرد، أو ذلك الفرد من عامة الناس، وعندئذ ينوب عنهم الكاتب الأديب، إنه لم يتعرض لظلم أفدح من سواه، ولا لطغيان أكثر مما تعرض له الآخرون، لكنه بحكم تكوينه الذي جعله شاعرا أو أديب قصة ومسرحية، أو غير ذلك من صنوف الصياغة «الأدبية»، أقول إنه بحكم تكوينه ذلك، يكون أعنف ثورة في ضميره، فيعلن الرأي أو يصوغ حقيقة الموقف، إعلانا وصياغة تخرجان ما كان مضمرا غائما في نفوس الآخرين، أي أن ضمير الكاتب إذ يتحرك لنفسه، فهو كذلك يتحرك نيابة عن سائر الناس.
هذا هو أبو العلاء المعري في زمانه، يعاني ما يعانيه الجمهور كله من اضطراب السياسة وفساد الساسة، لكن الجمهور من طبيعته الصمت الذي لا يبين، والأديب بينهم هو وحده الذي ينطق بلسانه، عما كانت تود ألسنتهم أن تنطق به لو استطاعت، فيقول أبو العلاء فيما أحسه مع الناس كلاما كثيرا، بالشعر مرة وبالنثر الفني مرة أخرى، فيكون ذلك بمثابة ضمير خاص لنفسه، وعام يشمل الناس أجمعين، فتراه يقول ما معناه بلغتنا الدارجة: إن الناس تسوسهم هذه الأيام شياطين مسلطة عليهم، هم الولاة الذين يتولون أمورهم في الأمصار جميعا، فهؤلاء الولاة لا يعنيهم أن يجوع الناس حتى الموت، ما دامت موائدهم مثقلة بالطعام والشراب، وإن الأمير من الأمراء لم ينل إمارته إلا عن طريق العربدة، وحتى أولئك الذين يظهرون الورع والتقوى، فإنما ورعهم ذاك وتقواهم مصائد يصيدون بها المناصب والمكاسب، إلا أني قد مللت العيش في هذه الأمة - هكذا يقول أبو العلاء بعد ترجمة لغته الأدبية إلى لغتنا الدارجة - مللت العيش في هذه الأمة؛ لأنني أرى أمراءها، وكأنهم مكلفون بخرابها لا بصلاحها، فلقد ظلموا الرعية واستباحوا كبدها، وجاوزوا مصالحها، مع أنهم أجراء هذه الرعية يأخذون رواتبهم من كدحها، إنك إذا قلت الحق، اضطررت إلى أن تقوله مهموسا، وأما إذا نطقت لغوا وباطلا، أقاموا لك المنابر عالية:
ناپیژندل شوی مخ