والمناهج الثلاثة جميعا: الحكمة، والجدل، والموعظة، مطلوبة لنا اليوم لنتجه بالدعوة الثقافية، التي ندعو بها إلى حياة العصر الجديد، اتجاهات تنتج الأثر الذي يبقى ويثمر.
الزيارة الرابعة
جاءتني الدعوة بأن أشارك في ملتقى ثقافي، يعقد في وشنطن بين فريق من العرب وفريق من الأمريكيين، وكان ذلك في أواخر شهر سبتمبر الماضي، وأساس اللقاء - كما قيل لي عند توجيه الدعوة - هو أن يقدم كل فريق ما يرى تقديمه من القيم الثقافية التي تتميز بها أمته، على أن يعقب المحاضرات التي تلقى، شيء من التعليق والمناقشة، فكانت هذه الزيارة بالنسبة إلي، هي الزيارة الرابعة، يبعد أولها عن آخرها بما يقرب من خمسة وعشرين عاما، وكان الفرق بين الرؤيتين، هو الفرق الذي تحدثه هذه الأعوام في المرئي والرائي.
كنت في المرة الأولى أستاذا زائرا في جامعتين من جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت إحداهما في الجنوب الذي اشتدت فيه التفرقة العنصرية بين الألوان، وكانت الأخرى في الغرب المنفتح صدرا وعقلا، ولقد كانت لقاءاتي - على الأغلب - مع أساتذة جامعيين، فربما كان لذلك أثر في نقاء الصورة التي رأيتها، وسجلت مشاهداتي إبان تلك السنة في كتابي «أيام في أمريكا»، ولم يعد بي حاجة إلى مزيد من قول، لكني أود أن أذكر هنا - تمهيدا للمقارنة - أن ذلك الكتاب في مجمله، قد جاء يحمل نظرة مبهورة بما رأيت، حتى لقد كتب عنه كاتب ناقد، فقال إنه يحمل إلى القارئ «عقدة الخواجة»، التي أصيب بها مؤلفه، مع أن الأقرب إلى الصواب، هو أن العقدة التي هي عند مؤلفه، عقدة «العلم» المترجم إلى دقة، تغلغلت في أصلاب الحياة بكل أوضاعها.
وفي المرة الثانية كنت ملحقا ثقافيا بسفارتنا في وشنطن ، ولست أريد أن أذكر شيئا من تفصيلات الخبرة التي مررت بها عندئذ، سوى أن أقول إنه ربما كانت الشهور التي قضيتها في ذلك العمل، أتعس ما عشته من سنين، ويكفي أن أقول إنها كانت المرة الأولى والأخيرة في حياتي، التي جعلني بعض المحيطين بي، أحس بأنه عار يدنس الإنسان، أن يكون قد نذر جهده لحياة الفكر والثقافة.
وأما الزيارة الثالثة فكانت لثلاثة أسابيع، أشاهد خلالها طريقة العمل في إعداد الموسوعات، فزرت ثلاثا منها، وهي أكبرها: «البريتانيكا» في شيكاجو (وكانت قد اشترتها إدارة أمريكية من الإدارة البريطانية) و«كولومبيا» و«الأمريكانا» في نيويورك، وكان ذلك كله على سبيل التمهيد لإخراج الموسوعة التي أنفقت عليها شركة فورد، وأشرفت على إخراجها مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، وقام بإعدادها وتأليفها نفر من خيرة العلماء في الوطن العربي، برئاسة المرحوم الأستاذ محمد شفيق غربال.
ثم جاءت هذه الزيارة الرابعة منذ أيام، فلم يسعني في لحظة من لحظات التأمل، إلا أن أقارن مقارنة سريعة بين هذه الزيارات الأربع، من حيث الأثر الذي تركته في نفسي، فكان أول ما خطر لي، هو أن الزيارتين الثانية والثالثة، لم أزدد بهما علما عن أمريكا، بقدر ما ازددت علما بمصر، أما في عام السفارة فقد رأيت منذ البداية، أن الأمر لن يكون خدمة للثقافة، بقدر ما يكون مشاركة في لعبة المناورات، والمناورات المضادة، والتي محورها جميعا هو: من الرئيس ومن المرءوس؟ ولما كنت من «أخيب» عباد الله في أمثال هذه المناورات، فقد لذت بالفرار، لينعم بالرئاسة من استطاع أن ينعم.
كانت هذه إذن خبرة بمصر أكثر منها خبرة بأمريكا، وكذلك كانت الحال في زيارة الموسوعات، فقد عدت من تلك الزيارة القصيرة، لأجد مجموعة من مقالات نشرتها الصحف، بشيء من التنسيق فيما بينها، كأنما وراءها «مايسترو» ينظم الخطوات، وخلاصة تلك المقالات هي أن مثل هذا العمل الذي هممنا به هو خيانة، وأن موسوعة عربية لا ينبغي لها أن تجيء ترجمة عن موسوعة أمريكية ، إلى آخر ما كتب الكاتبون، ومرة أخرى وجدت نفسي في موقف من مناورات تتطلب مناورات مضادة، ولم يخلقني الله لمثلها، فتنحيت عن رئاسة التحرير، وأن أكن قد ظللت عضوا عاملا في لجنة الإشراف، استجابة لما أراده أستاذي شفيق الغربال.
والذي ملأ قلبي حسرة يومئذ، هو أن أصحاب تلك المقالات، لم ينتظرا ليعرفوا حقيقة الأمر: أهي حقا موسوعة مترجمة، أم هي موسوعة اضطلع بتأليفها نفر من علماء الغرب؟ ثم أهي حقا تتحدث عن موضوعات أمريكية، أم أنها جعلت أعلى نسبة للموضوعات العربية الخالصة؟ وعلى كل حال فقد تحقق المشروع، وبرغم كل ما وقع فيه من أخطاء - صححت في الطبعات التالية - فإني أعتقد أن هذه الموسوعة العربية الصغيرة، قد وضعت أساسا متينا، لكل من أراد بعد ذلك موسوعة عربية كبرى.
وتبقى هذه الزيارة الرابعة، فها هنا لم أترك الحكم لبصري وسمعي وحدهما؛ إذ ماذا عسى أن يعلمه البصر والسمع خلال أيام معدودات؟ بل أضفت إليهما ما يقوله أصحاب الشأن أنفسهم، إذا وجدت فيما يقولونه دلائل الصواب، ولعلني لم أقف من شيء وقفتي من صناعة «الكاتب» في أمريكا، ما حقيقتها؟ ثم جاءت المحاضرة التي ألقاها في ذلك الملتقى «جون أبدايك» - وهو كاتب وشاعر - تحمل الجواب المتزن الذي تفوح منه رائحة الصدق ونزاهة الحكم.
ناپیژندل شوی مخ