وإذا ما نظر الإنسان إلى تلك البيوت من الخارج رآها مكعبات حجرية بيضا كبيرة تعلوها سطوح، وينفذ النور إلى أجزائها من قاعات محاطة بأقواس تقوم عليها طبقات من الأروقة التي تدخل الغرف منها، وهي مبلطة بالآجر المطلي، ويغطي الميناء جدرانها، ويستر الخشب المحفور سقوفها من الداخل، ويتألف أثاثها من الحصر والبسط ومن متكأ يوضع في أقصى الغرفة ويصلح للجلوس في النهار والنوم في الليل، ومن صناديق خشبية مدهونة لصيانة الثياب والحلي، ويستر أعلى تلك القاعات بنسج ذات حبال مربوطة بكلاليب على السطوح منعا لحرارة الشمس، والواقع أن البيوت القائمة على هذا الطراز تلائم البلاد الحارة، وأن الناس في المدن العربية القديمة في إسپانية، ولا سيما في أشبيلية، يشيدون بيوتهم على طرازها حتى الآن.
شكل 2-4: باب بيت قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وفن عمارة إحدى الأمم عنوان صادق لاحتياجاتها، وإذا ارتحلت أمة عن قطر إلى آخر حولت فن عمارتها إلى ما يلائم بيئتها الجديدة، ولهذا نرى اختلافا بين البيوت العربية في القاهرة، مثلا، والبيوت الموصوفة آنفا؛ ففي المدن الكبيرة كالقاهرة، حيث تضيق المساحات، تقام البيوت على ثلاث طبقات في الغالب، ولا تكون رداهها مرتفعة كما في دمشق، وتفتح نوافذها على الشوارع لعدم كفاية قاعاتها الضيقة لتجديد هوائها، ولكن العرب إذ يرون أن تكون النوافذ مغلقة أمام الغرب لم يعتموا أن اخترعوا الشبابيك الخشبية ذات التخاريم وسموها المشربيات.
والآن لا يرى في القاهرة غير عدد قليل من البيوت القديمة التي أنشئت على طراز العمارة في عصر الخلفاء والتي تنقلب إلى خرائب، وأذكر منها بيت مدير المساجد العام، ويرى أغنياؤها في الوقت الحاضر إنشاء بيوتهم على الطراز الأوربي لما يجدون فيها من الهيف! وتمتاز البيوت القديمة في القاهرة من بيوت كثير من المدن الشرقية بأبوابها المزخرفة إلى الغاية. (2-3) الأسواق
الأسواق من أهم أجزاء المدن في الشرق، فيرى في كل مدينة مهمة كثير من الأبنية التي يتألف من مجموعها حي للتجارة وحدها يسمى السوق، وتحتوي السوق على أروقة طويلة مغطاة بألواح أو حصر، وعلى دكاكين متجمعة على حسب أنواع السلع، ويضاف نوع السلع التي تباع في الرواق إلى كلمة السوق فتعين بذلك فيقال، مثلا، سوق الأسلحة وسوق الأزياء وسوق الأبازير ... إلخ، وإذا عدوت كبريات المدن لم تجد غير السوق مكانا للبيع ولو كانت السلع مما يستهلك يوميا.
ولا شبه بين الدكاكين الشرقية المظلمة والحوانيت الأوربية، ولا عهد للدكاكين الشرقية بفن العرض على الخصوص، وتبدو هذه الدكاكين مجوفات مظلمة يترجح عرضها بين مترين وثلاثة أمتار ولا تزيد على هذا طولا، وتكون السلع منضدة فيها، ويجلس البائع أمامها، وتحتوي على ثروات واسعة أحيانا مع حقارة منظرها.
والسوق ملقى الناس المفضل في الشرق، وهي المكان الوحيد الذي يكون فيه شيء من النسيم في الغالب، والنساء يقصدنه ليمكثن فيه مدة ساعات.
والرجال وحدهم هم الذين يقومون في الشرق بإدارة شؤون دكاكين الأسواق، ومنها دكاكين النصارى.
وينتظر التاجر المشتري أمام دكانه متزنا صابرا، ولا يزعج أحدا من المارين ما لم يكن التاجر يهوديا، فإذا كان التاجر يهوديا ألحف على المشتري بدناءة، فلم يستطع أن يتخلص منه إلا بعد عناء كبير.
ومن عادات التاجر الشرقي، مهما كان جنسه، أن يطلب، أول وهلة، خمسة أمثال ما تساويه سلعته، كما أن من العادات الثابتة ألا تتم الصفقة إلا بعد جدل طويل، وإذا كانت السلعة على شيء من القيمة استمرت المساومة أياما كثيرة، وقد اقتضى اشترائي للنارجيلة النحاسية المكفتة بالفضة، والتي نشرت صورتها في هذا الكتاب، مساومة دامت أسبوعا كاملا، فكأن الشرقي لا يخرج عما يملك إلا بعناء، فعلى من يرغب في ابتياع شيء من الشرقي أن يكون صبورا مثله.
ناپیژندل شوی مخ