188

د عرب حضارت

حضارة العرب

ژانرونه

وإذا أراد المرء تصور تأثير الشرق في الغرب وجب عليه أن يتمثل حال الحضارة التي كانت عليها شعوبهما المتقابلة، فأما الشرق فكان يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب، وأما الغرب فكان غارقا في بحر من الهمجية، وقد ظهر من بياننا الوجيز عن الحروب الصليبية أن الصليبيين كانوا في سلوكهم وحوشا ضارية، وأنهم كانوا ينهبون الأصدقاء والأعداء ويذبحونهم على السواء، وأنهم خربوا في القسطنطينية ما لا يقدر بثمن من الكنوز القديمة الموروثة عن اليونان والرومان.

ولم يكن عند أولئك البرابرة ما يفيد الشرق، ولم ينتفع الشرق منهم بشيء في الحقيقة، ولم يكن للحروب الصليبية عند أهل الشرق من النتائج سوى بذرها في قلوبهم الازدراء للغربيين على مر الأجيال، ولم ينشأ عن جهالة الصليبيين وغلظتهم وتوحشهم وسوء نيتهم غير حمل الشرقيين أسود الأفكار عن نصارى أوربة وعن النصرانية، وغير إيجاد هوة عميقة لا يمكن سدها بين أمم الشرق وأمم الغرب، وما إلى ذلك من النتائج الضارة التي أشرنا إليها آنفا.

ولم تكن العداوة العادلة التي يحملها الشرقيون تجاه أمم الغرب كل ما صدر عن الحروب الصليبية من النتائج الضارة، فقد نشأ عنها، أيضا، زيادة سلطة البابوات الذين كانوا رؤساء عالين للصليبيين، وزيادة سلطة رجال الدين الذين اغتنوا بأرضين اضطر السنيورات إلى بيعها منهم ليقوموا بنفقات الغزو، وقد نجم عن نمو سلطة أولئك واغتناء هؤلاء أن رغب البابوات في السيطرة على الشعوب والملوك وأن عم فساد الإكليروس، فأدى هذا الفساد بعد زمن إلى الإصلاح الديني وما قاسته أوربة بسببه من المنازعات الدامية.

ومن أشأم نتائج الحروب الصليبية: أن ساد عدم التسامح العالم عدة قرون، وأن صبغته بما لم تعرفه ديانة، خلا اليهودية، بصبغة القسوة والجور ، أجل، كان العالم قبل الحروب الصليبية يعرف الشيء الكثير من عدم التسامح، ولكنه ندر أن كان عدم التسامح هذا يصل إلى حد الجلف والطغيان، وقد بلغ عدم التسامح هذا مبلغا من الحميا الشديدة في الحروب الصليبية ما لا يزال العالم يقاسي أثره إلى زماننا تقريبا، فلم يلبث رجال الدين الذين تعودوا سفك الدماء أن صاروا ينشرون المعتقد ويبيدون أصحاب البدع على الطريقة التي كانوا يبيدون بها الكافرين، ويرون أنه يجب إخماد أقل انحراف بأفظع تعذيب، ومن نتائج ما نما في الحروب الصليبية من روح عدم التسامح المشؤومة: ما حدث من ذبح اليهود والألبيجوا وكل ذي بدعة، ومن إنشاء محاكم التفتيش، ومن الحروب الدينية، ومن الحروب الوحشية التي ضرجت أوربة بالدماء زمنا طويلا.

ولنبحث الآن في نتائج الحروب الصليبية النافعة بعد أن ذكرنا نتائجها الضارة الثابتة: كان من النتائج السياسية التي نشأت عن الحروب الصليبية أن تضعضع النظام الإقطاعي في فرنسة وإيطالية على الأقل، وذلك أن السنيورات لم يخسروا كثيرا من أرضيهم التي باعوها؛ لينفقوا على ما جهزوه من الحملات فقط، بل باعوا أيضا ما كانت تصبو إليه المدن من الحرية والامتيازات، فصارت هذه المدن دويلات مستقلة ضمن دول الإقطاع تابعة للملك وحده، ثم أصبح اشتراء المدن لحريتها مبدأ عاما، فقامت بلدية مستقلة في كل مدينة، فكانت نتيجة ذلك أن ضعف شأن الإمارات الإقطاعية الصغيرة لا الكبيرة التي مالت إلى التوسع، وأن أضحى ملك فرنسة حكما بين الڨسالات وسادتهم السابقين أكثر مما في الماضي، وأن زادت بذلك سلطة ملوك فرنسة، الضعيفة قبل الحروب الصليبية، على حساب سلطة ڨسالاتهم التي كادت تساوي سلطة الملك فيما مضى، والتي عادت لا تكون في غير الظواهر في بضعة قرون.

شكل 8-7: قدح عربي يعرف بقدح شارلمان، ويرجح أنه جيء به من الشرق أيام الحروب الصليبية (متحف شارتر).

ولم يتقلص النظام الإقطاعي بفعل الحروب الصليبية إلا في فرنسة وإيطالية، لا في إنكلترة وألمانية اللتين لم يشترك سنيوراتهما في الحروب الصليبية الأولى إلا قليلا، واللتين حافظوا على إقطاعاتهم فيهما، وصاروا رقباء على ملوكهما الذين تورطوا فيها كثيرا، فاستفادوا من ذلك فقيدوا سلطة هؤلاء الملوك، ونحن إذا أنعمنا النظر فيما نشأ عن سير الحوادث من النتائج البعيدة بدا لنا أن أصول دستور إنكلترة السياسي المتين ترجع إلى حوادث الحروب الصليبية.

أجل، اشترك ثلاثة من قياصرة ألمانية في الحروب الصليبية، فلما مات فردريك الثاني الذي هو آخرهم كانت السلطة القيصرية من الأوهام، واشترك ثلاثة من ملوك فرنسة في الحروب الصليبية، فأما رحلة فليب أوغست فكانت قصيرة، وأما سلطة الأشراف في غياب لويس السابع ولويس التاسع فكانت غير خطرة لما ذكرنا، فسهل على نائب الملك سوجر والملكة بلانش أن يردا جماحها.

وكان لاصطراع أوربة وآسية تأثير كبير في التجارة أيضا، فقد نشأ عن تجهيز الجيوش الكبيرة التي قذفت بها أوربة في الشرق في قرنين وتموينها ونقلها حركة عظيمة في التجارة البحرية؛ فاغتنى بذلك أهل مرسيلية وپيزة وجنوة والبندقية على الخصوص، وبلغت بحرية مرسيلية درجة عظيمة من النمو استطاعت معه؛ في سنة 1190م؛ أن تنقل إلى الأرض المقدسة جيش قلب الأسد ريكاردس.

ولم يقف نمو التجارة بعد طرد الصليبيين من آسية؛ فقد عقد أكثر جمهوريات إيطالية وأمراء المسلمين معاهدات تجارية؛ وكانت صلات البندقية التجارية الوثيقة بالمشرق سبب عظمتها، واطرد تقدم هذه التجارة مع الزمن إلى أن اكتشفت طرق بحرية جديدة، فانتقل زمامها إلى أيد أخرى.

ناپیژندل شوی مخ