والزيتون، وحفروا فيها الترع والقنوات التي لا تزال باقية، وأنشأوا فيها المجاري المعقوفة التي كانت مجهولة قبلهم.
وتقدمت الصناعة في صقلية بفضل العرب، واستغل عرب صقلية ثروتها الطبيعية، واستخرجوا منها الفضة والحديد والنحاس والكبريت والرخام والغرانيت ... إلخ، بأساليب فنية، وأدخلوا إليها صنع الحرير، ومما يرى في نور نبرغ رداء من الحرير كان يلبسه ملوك صقلية مطرزا بكتابات كوفية مع تاريخ سنة 520ه / 1133م، ويحمل كل شيء على القول بانتشار فن صباغة المنسوجات في أوربة من صقلية.
وانتعشت التجارة، واتسع نطاقها أيام العرب بعد أن كانت صفرا، تقريبا، قبلهم كما يدل على ذلك ما انتهى إلينا من جداول مكوسهم التي أدرجت فيما نظمه النورمان من القوائم في أوائل الفتح فتثبت درجة تحول تجارة صقلية حين هذا الفتح.
ولم يبق من المباني الإسلامية في صقلية سوى عدد قليل، وأشهر هذه المباني قصر العزيزة وقصر القبة القائمان بالقرب من بلرم، واللذان ثبت بهما أنه لم يكن من المبالغة ما رواه المؤرخون عن فخامة مباني العرب في صقلية، فعن هذه المباني المزينة بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة والمحاطة بأجمل الرياض تكلم الراهب ثيودوز والعالم الجغرافي الإدريسي مع الإعجاب، والراهب ثيودوز هذا أسر في أثناء حصار سرقوسة في سنة 878م، ونقل إلى بلرم، وامتدح قصور هذه المدينة المهمة ومساجدها وضواحيها.
واسمع في وصف بلرم ما قاله العالم الجغرافي العربي الإدريسي الذي ألف كتاب رحلته الكبير في بلرم في عهد الملك روجر الثاني أي بعد الفتح النصراني بزمن قليل:
بلرم هي المدينة السنية العظمى، والمحلة البهية الكبرى، والمنبر الأعظم الأعلى، علم بلاد الدنيا، وإليها في المفاخر النهاية القصوى، ذات المحاسن الشرائف، ودار الملك في الزمان المؤتنف والسالف، ومنها كانت الأساطيل والجيوش تغدو للغزو وتروح كما هي عليه الآن من ذلك، وهي على ساحل البحر في الجانب الغربي والجبال الشواهق العظام محدقة بها، وساحلها بهج مشرق فرج، ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين: قصر وربض، فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة؛ السماط الأوسط يشتمل على قصور منيفة، ومنازل شامخة شريفة، وكثير من المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار، والسماطان الباقيان فيهما أيضا قصور سامية، ومبان فاخرة عالية، وبهما من الفنادق والحمامات كثير، وبهما الجامع الأعظم الذي كان بيعة
2
في الزمن الأقدم، وأعيد في هذه المرة على حالته في سالف الزمان، وصفته الآن تعزب عن الأذهان، لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة المنتخبة المخترعة، ومن أصناف التصاوير وأجناس التزويق والكتابات، وأما الربض؛ فمدينة أخرى تحدق بالمدينة من جميع جهاتها، وبه المدينة القديمة المسماة بالخالصة التي كان بها سكنى السلطان والخاصة في أيام المسلمين، وباب البحر ودار الصناعة التي هي للإنشاء، والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة، وعيونها جارية متدفقة، وفواكهها كثيرة، ومبانيها ومتنزهاتها حسنة، تعجز الواصفين، وتبهر عقول العارفين، وهي بالجملة فتنة للناظرين، والقصر المذكور من أكبر القصور منعة وأعلاها رفعة، لا ينال بقتال، ولا يطاق على حال، وبأعلاه حصن محدث للملك المعظم رجار مبني بالفصوص الجافية والحجارة المنحوتة الضخمة، وقد أحكم نسقه وأعليت رقعه، وأوثقت مناوره ومحارسه، وأتقنت قصوره ومجالسه، وشيدت بنيانا ونمقت بأعجب المغتربات، وأودعت بدائع الصفات، فشهد لها بالفضل المسافرون، وغلا في وصفها المجولون، وقطعوا قطعا أن لا مباني أعجب من مباني المدينة، ولا مكان أشرف من مغانيها، وأن قصورها مشارف القصور، وأن دورها منازه الدور، والربض المحدق بالقصر القديم المتقدم ذكره هو في ذاته كبير القطر كثير الفنادق والديار والحمامات والحوانيت والأسواق، وله سور يحيط به وخندق وفصيل، وله في داخله، بساتين كثيرة ومتنزهات عجيبة وسقايات ماء عذبة جارية مجلوبة إليها من الجبال المحدقة ببقعتها، وبخارج الربض من الجهة الجنوبية منها نهر عباس، وهو نهر جار عليه جمل من الأرحاء الطاحنة لا يحتاج معها إلى غيرها.
وتفسر إمامة العرب في الفنون والصناعات والعلوم سبب حماية ملوك النورمان لهم، وكان الرهبان يعجبون بحذق العرب وإن كانوا يعزون اكتشافاتهم إلى السحر، وإنني أنقل، العبارة الغريبة الآتية التي وردت في كتاب تاريخي لاتيني، وذلك من بين العبارات الطريفة الكثيرة التي قيلت في العرب، وذلك للدلالة على رأي أعداء العرب في العرب ، قال المؤرخ:
اكتشف الكونت روبرت ويسكارد في إحدى غزواته تمثالا على عمود رخامي متوج بإطار من نحاس منقورة فيه هذه الكلمة: «سأكون عند طلوع الشمس من اليوم الأول من شهر مايو صاحبا لتاج من ذهب»، فلم يستطع أحد أن يدرك مغزاها، ولكنه كان عند الكونت روبرت أسير من عرب صقلية عنده علم الجفر، كجميع أبناء هاجر فأخبر الكونت هذا بأن لديه مفتاح ذلك اللغز وبأنه يقول له معنى تلك الكلمة إذا أطلق، فوعده الكونت بذلك، فأشار ذلك العربي عليه بأن يحفر حين طلوع الشمس من اليوم الأول من شهر مايو المحل الذي يدل عليه منتهى ظل ذلك التمثال، فصنع الكونت ما نصحه به فوجد كنزا كبيرا. (3) غزو العرب لفرنسة
ناپیژندل شوی مخ