عرب په اندلس کې پوهه: هوښيارۍ تاريخي پيغامونه په يوه ښکلي مفکورې کولبه کې
حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
ژانرونه
إهداء الكتاب
حامدا ومصليا
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
إهداء الكتاب
حامدا ومصليا
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
حضارة العرب في الأندلس
حضارة العرب في الأندلس
ناپیژندل شوی مخ
رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
تأليف
عبد الرحمن البرقوقي
إهداء الكتاب
إلى روح أستاذي الإمام الشيخ محمد عبده؛ إلى الرجل العظيم الذي لم تقع عيني على مثله رجاحة عقل، وسجاحة خلق، وعبقرية ذهن، وسمو نفس، وعظمة روح، وهمة تناطح النجوم، وكرما يشامخ الغيوم، وأدبا إلهيا من الطراز الأول حتى لكأنما نشأ في حضانة الله؛ إلى الرجل كل الرجل، الذي يحب معالي الأمور ولا يحب سفسافها.
تلذ له المروءة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغرام
إلى الرجل الذي لم يفزع إليه فازع، ولم يستصرخه مستصرخ إلا كان الصراخ له إنجاز ما أمله؛ إلى الرجل الذي لو مد الله في أجله، وبقي إلى أن رأى ثمار غرسه ونتاج عمله، لكان للأديب اليوم شأن غير هذا الشأن، وحال غير تلك الحال؛ لأنه عظيم، فهو يحب كل عظيم ويمده ويشبه وقدا، ولا يحقد ولا يحسد؛ لأن «رئيس القوم لا يحمل الحقدا.»
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب •••
ناپیژندل شوی مخ
عالم أشبهوا القرود ولكن
خالفوها في خفة الأرواح •••
لهم حلل حسن فهن بيض
وأخلاق سمجن فهن سود •••
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
إلى روح أستاذي الذي علمني وربني وأدبني، فأحسن - بحمد الله - تأديبي؛ فكنت خريجه ولا فخر، وكنت غرس يديه ونعمة عين. وكما أرسل الله إلى صفيه وخيرته من خلقه سيدنا محمد بن عبد الله - صلوات الله وتسليماته عليه - ملكين كريمين سقطا عليه كسقوط الندى وهو يلعب مع إخوته من الرضاعة خلف بيوت ظئره - رضوان الله عليها - فأضجعاه، فاستخرجا قلبه فشقاه، فتناوشا منه علقة سوداء، ثم غسلا قلبه بثلجهما السماوي حتى أنقياه، وكان ذلك كمدرجة لمقام النبوة ومهمة الرسالة العظمى؛ أرسل الله إلينا هذا الإمام، وطلع علينا كما يطلع البدر في دجنات الظلام ونحن في الأزهر نتعسف الطريق، ونتقحم تلك الجراثيم، فهدى من ضلالة، وأنار من ظلمة، وانتاشنا من مضيق ومرتطم، وأقامنا على المناهج النيرة، والمحاج الواضحة، وغسل عقولنا حتى أنقى أدرانها، ثم فاض علينا فيض علمه وأدبه.
فإلى روح هذا الإمام، أهدي هذا الكتاب.
عبد الرحمن البرقوقي
حامدا ومصليا
ناپیژندل شوی مخ
أما بعد، فهذا كتاب وضعته قديما وأسميته «حضارة العرب في الأندلس»، ولقد أشرب قلبي مذ طراءة العمر، وريعان الصبى، وجن النشاط، حب التاريخ الإسلامي عامة، وتاريخ هذا الفرع الأندلسي منه خاصة؛ فكان مما عنيت به فضل عناية، وكان مما أولعت به الولوع كله النظر في تاريخ الأندلس وحضارة العرب بها، منذ افتتاحهم إياها إلى أن تأذن الله لهم، وكلب عليهم الإسبانيون، وكلح لهم الدهر وجهه، وتقلصت ظلال تلك الحضارة بعد أن فاء بها الفيء على شرق الأرض وغربها، وبلغ من همي بهذا التاريخ أني بعد أن استوعبت كل ما وصل إلينا من تآليف العرب، ذهبت أتلمس ما كتبه مؤرخو الغرب ومستشرقوه على ذلك المصر، حتى اقتنيت أمهات أسفارهم، وعهدت إلى كثير من أصدقائي الذين يحسنون الفرنسية والإنكليزية أن ينقلوا إلي كل ما يتصل بغرضي من مباحث هاتيك الكتب، ومضيت في ذلك ومضوا فيه حتى استجمعت الكثير، وما يزيد على الكثير، ثم خطر الدهر من خطراته.
ونشأت ظروف أواخر سنة 1910 ميلادية؛ أي قبيل إخراج «البيان»، اضطرتني أن أزايل القاهرة وأقيم في بلدي - مسقط الرأس ومكان الغراس - فأفسح لي ذلك في الوقت، ومد لي في النظر، وبسط في مطارح التأمل. وإني لأتقرى يوما تاريخ أبي الفداء إذ صدف أن أخذت عيني هذا الخبر الذي لا حفل له، والذي يقتحمه في العادة النظر ولا يكاد يتلفت إليه، أو يتوقف عليه؛ وهو ما رواه من «أنه في سنة 345 هجرية عمل عبد الرحمن الناصر؛ صاحب الأندلس، مركبا كبيرا، وحشد فيه كثيرا من بضائع الأندلس، وأرسله إلى بلاد المشرق؛ لتباع هذه البضائع هناك وتستبدل منها بضائع مشرقية.» ففتحت علي هذه العبارة أبوابا من وراء أبواب، وامتدت الكلمة في نفسي حتى خرج من حروفها كتاب، وألهمت أن أضع ما جمعت من علم الأندلس كله في صدر رحالة مصري يقوم من الإسكندرية وافدا إلى الأندلس في مركب الناصر هذا - فهو يرى ويسمع ويقص ويدون ويصف ويستعين بما يعلمه وما يراه، وما يفتق له الخاطر ويهيئ الفكر - في رسائل يضمنها وصف تلك الحضارة على اختلاف ألوانها، وشتى فنونها، وصف مؤرخ أديب فيلسوف يرحل للتاريخ وفلسفته، فيدرسه في كتبه وفي مواضعه ورجاله وأسبابه وحوادثه؛ وبذلك يستجمعه من أطرافه، ويحويه من أكنافه. وتم التقدير على أن أضع على لسان هذا الرحالة الذي ذهب إلى الأندلس، وأقام فيها زهاء عشرين عاما خمس رسائل، يكون عنوان الأولى «من الإسكندرية إلى المرية»، والثانية «من المرية إلى قرطبة»، والثالثة «مقامي في قرطبة»، والرابعة «العلوم والآداب والفنون في الأندلس»، والخامسة «تقويم الأندلس وتاريخها» ... وهو بديهي أنه لا يقدم على هذا العمل مقدم إلا بعد أن يحيط بتاريخ هذا العصر علما، ويقتله كله دراية وفهما؛ فليس يكفيه أن يكون ملما بتاريخ الأندلس، ولا بتاريخ الدول الإسلامية لهذا العهد؛ بل لا بد مع ذلك من أن يكون واقفا على تاريخ الأمم الأخرى المعاصرة، والتي لها علاقة بالدول الإسلامية إذ ذاك؛ مثل الدولة الرومانية وما إليها، وكذلك درست تاريخ هذا العصر من جميع نواحيه، ثم وضعت يدي في هذا العمل، وأخذت في كتابة هذه الرسائل، ومضيت لطيتي حتى إذا سرت شيئا طرأ علي ما أجاءني إلى القاهرة، وفي تلك الآونة طلع «البيان»، وطفقت أنشر فيه نبذا من هذا الكتاب. وكان المنتظر أن يكون «البيان» بحيث يغري بإتمام الكتاب ونشره كله بين صفحات هذه السنوات التي خلت، ولكن جاء الأمر على حد ما قيل: طلبت بك التكثير فازددت قلة؛ فلقد استبد بي هذا البيان، واستأثر علي بنفسي استئثارا، وتدفق في أذاته، وألح في سطواته؛ حتى إنه بعد أن التهم الوفر أكلا وشربا ألوى بنفسي
1
قلبا ولبا، وتركني لا أفكر إلا فيه، ولا أتشاغل إلا به.
فلو أن لي تسعين قلبا تشاغلت
جميعا فلم يفزع إلى غيره قلب
وكذا مصير كل من يمتهن الأدب في الصحف، وبخاصة إذا كان هو صاحب تلك الصحيفة، له غنمها، وعليه غرمها، ببلد سقط فيه نجم الآداب الرفيعة، وطاش سهمها، وقديما قيل لحكيم: إن فلانا رجل عاقل، فقال: هل هو متزوج؟ فقيل له: نعم، فقال: إذن ذهب عقله! وعلى هذا القياس لو قيل لي: إن فلانا فيلسوف أو عالم أو أديب، لقلت: هل هو صاحب مجلة في مصر؟ فإذا قيل: نعم، قلت: إذن ذهب والله في الذاهبين ... فإنه إذا كان المتزوج يجد من هم واحدة وما يكون منها ما لا يدعه لهم نفسه، فيذهب بذلك عقله أو بعض عقله، فإن صاحب المجلة يصيبه هم المئات إلى الألوف ممن يقرءون ولا يفون بحق ولا عهد، فهو ينفق من نفسه وما أعده لنفسه، وهم يمحقونه محقا حتى ينقص بهم على زيادتهم، ويقل على كثرتهم، ولا يزال ذلك شأنهم وشأنه لا هو يتركهم وعليهم حقه، ولا هم يدعونه في غير هذه الحالة، وبذلك يذهبون بفلسفته وعلمه وأدبه مذاهب العقم، ويبلونه بالاغتمام، ولا عقل مع غم، ولا قلب مع هم، فذهب - إذن - والله صاحب المجلة، وكان من ضياع العقل في وزن من تزوج، لا بزوجة واحدة، بل بألف زوجة ...
وبعد، فهذا هذا، وفي هذه الآونة؛ في هذه الفترة التي احتجب فيها البيان، والتي وجدت فيها نفسي. جرى بيني وبين أحد أفاضلنا يوما حديث أفضى إلى ذكر هذا الكتاب، وأنست من هذا الفاضل رغبة حارة صادقة في تمامه، وطبع ما تم منه إلى الآن، في الأقل، على حدة، فكان جواب الفعل أسبق من جواب القول، وقدمت هاتين الرسالتين إلى المطبعة على أن أردفهما قريبا - إن شاء الله - بالرسائل الثلاث الباقية. وهاتان الرسالتان يكادان يكونان كتابا مستقلا يصح أن ينزلا من الرسائل التالية منزلة مدخل الكتاب من الكتاب.
والآن يجمل بنا أن نقدم بين يدي الناظر في كتابنا هذا تنبيهات، يخلق به أن يلحظها، ويتنبه عليها؛ وإليكها:
1
ناپیژندل شوی مخ
يلحظ قارئ هذه الرسائل في بعض المواطن شيئا يشبه أن يكون حشوا، أو زيادة، أو فضولا، أو شططا ، أو خروجا عن الموضوع، أو ما شئت سمه؛ وذلك مثل كلامنا على الخمر (انظر فصل صقلية)، وكلامنا على حب الوطن (انظر فصل صقلية)، فليعلمن القارئ أنا لو قصرنا كلامنا في هذه الرسائل على البحث التاريخي البحت، دون تطريتها بمثل هذه المعاني الغضة اللينة المستطرفة، التي تستروح إليها النفوس، وتريح على القارئ عازب نشاطه؛
2
لجاءت كزة جافة ثقيلة مملة. وليس للكاتب اليوم في أي باب من أبواب العلم والأدب منتدح عن أن يداور القارئ على القراءة ويراوغه،
3
ويحتال بكل ضروب الحيل التي تغريه بالقراءة، وتشوقه إلى الاطلاع ما دامت الرءوس كأن بها خبالا، والنفوس كأن بها دائما ملالا؛ على أنه إذا كان الغرض الذي نترامى فيه
4
بهذه الرسائل هو وصف حضارة العرب، فلماذا لا نهتبل هذه الفرصة ونتصدى - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا - لكل معنى من معاني هذه الحضارة، ومبلغ ما وصل إليه العرب في هذا المعنى؛ ومن ثم لم نتعرض لمثل ما تعرضنا عبثا، وإنما لنصف لك كل ألوان الحضارة العربية على اختلافها أولا وبالذات، ولننفي عن القارئ ما عساه يلم بساحته من السأم والملال ثانيا وبالعرض.
2
قد يلمح القارئ من أسلوب هذه الرسائل وطريقة الوصف والتفكير فيها مسحة من روح جيلنا، ويراها مصطبغة بصبغة عصرنا؛ وهذا وإن لم يكن في مكنتنا اجتنابه - لأنا؛ ضرورة كوننا من أبناء هذا الجيل وامتزاج روحه منا بالدم واللحم، لا نستطيع الخروج عن كياننا - إلا أنه مع ذلك نكاد نكون قد قصدنا إليه قصدا؛ لأنه يدخل في باب التطرية التي لا بد منها؛ نفيا للملل الذي قد يعرو القارئ إذا نحن توخينا أسلوب تلكم العصور توخيا تاما؛ ولأنه لولا ذلك لما كان ثمت فرق بين هذه الرحلة وبين رحلة قديمة يضعها رحالة حقيقي في هاتيك العصور؛ بيد أنا مع ذلك قد احتفظنا جهد الاستطاعة باصطلاحات العرب في أسماء الأعلام والبلدان والأقطار والممالك، وما إلى ذلك، مع قرنها بأسمائها التي تعرف بها اليوم؛ إما في هامش الرسائل، وإما في صلبها بين أقواس.
3
ناپیژندل شوی مخ
كل ما كان لغيرنا ونقلناه بلفظه أو بمعناه نبهنا إليه في هامش الكتاب؛ ومن ثم يكون كل ما لم ننبه إلى مصدره فهو لنا معنى ولفظا، اللهم إلا ما نتمثل به من بيت مشهور، أو مثل سائر، أو أبيات قد عرف قائلها. على أنا إذا كنا في موضع تاريخي أو وصف جغرافي قد نبهنا إلى المصدر الذي اعتمدنا عليه، ففي الغالب الكثير تكون العبارة لنا، وإنما الذي لغيرنا هو العصارة التاريخية أو الجغرافية وما إليهما. وقد نسهو عن التنبيه إلى المصدر؛ إما لأنا لم نقيد ما ننقل حين النقل فلم نهتد إلى موضعه بعد ذلك؛ وإما لأن ما ننقله من غيرنا إنما نقلناه بواسطة حافظتنا.
4
قد نتمثل في بعض الأحايين ببيت أو أبيات تأخرت أوقات قائليها عن زمن الرحلة؛ مثل تمثلنا بأبيات لابن خفاجة أو لابن حمديس مثلا، ونحوه؛ فإنا لا نرى بأسا في ذلك ما دامت هاتيك الأزمان متقاربة متشاكلة، وحسبنا التنبيه إلى ذلك في هامش الكتاب.
أما بعد، فيرحم الله عمرو بن بحر إذ يقول: «لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعرا أو يؤلف كتابا.» ويرحم الله القائل: «عرض بنات الصلب على الخطاب أهون من عرض بنات الصدر على ذوي الألباب.» فإذا كنت قد وفقت أو قاربت التوفيق في هذا الكتاب، وإلا فحسبي أني لا آلو جهدا ولا أدخر وسعا، وأني أخلص النية، وأراقب الله في كل ما أعمل، على أنه لا كمال في الأرض، وإنما الكمال لله وحده، إليه سبحانه الرغبة في أن يحوط كل ما أعتمل بكلاءته، وأن يغشيه دائما بالقبول. إنه سميع الدعاء.
عبد الرحمن البرقوقي
هوامش
الرسالة الأولى
من الإسكندرية إلى المرية
كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بسحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، الموافقة سنة ست وخمسين وتسعمائة لميلاد السيد المسيح - صلوات الله عليه؛ وذلك في سفينة عدولية
ناپیژندل شوی مخ
1
لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر، لم نر قط مثلها. وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعا بإنشاء السفن والأساطيل، فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يعمل مثله، وسير فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق؛ لتباع هناك وتستبدل بها بضائع من هاتيك البلاد، فمر بكثير من ثغور البحر الشامي، وكان آخر ما مر به الإسكندرية.
2
ولما نزلت هذا المركب رأيت فيه كثيرا من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الأندلس، وممن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي،
3
وفقيه مصر أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري،
4
وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي،
5
وتاجر رحلة من أهل الموصل يعرف بابن حوقل،
ناپیژندل شوی مخ
6
وقينة اسمها فضل المدنية؛
7
وأصل هذه القينة، كما أخبرتني، لإحدى بنات هارون الرشيد، ونشأت وتعلمت ببغداد، ونهدت من هناك إلى المدينة المشرفة؛ فازدادت ثم طبقتها في الغناء، ثم اشتريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تسمى علم المدنية وصواحب أخرى. وقد عقدت الغربة بيني وبين فضل صحبة؛ لأن الغريب، كما قيل، للغريب نسيب. فرأيت منها أديبة ذاكرة، حسنة الخط، راوية للشعر، حلوة الشمائل، معسولة الكلام، ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع، والجمال الرائع، فكانت - صنع الله لها - سلوتنا في سفرنا، وكانت تجلو هموم السفر
8
ومرض البحر؛ بما تنفثه بيننا الفينة بعد الفينة
9
من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب، ويرتفع له حجاب القلوب، فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول:
حديث إذا لم تخش عينا كأنه
إذا ساقطته الشهد أو هو أطيب
ناپیژندل شوی مخ
لو انك تستشفي به بعد سكرة
من الموت كادت سكرة الموت تذهب
ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية، تحركت الريح الشرقية نسيما فاترا عليلا، ثم غشى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه، فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير، فبقينا لاعبين على صفحة ماء تخاله العين سبيكة لجين، كأنا نجول بين سماءين، فكان لذلك منظر هو قيد النواظر، وغل
10
الألباب، وشرك النفوس، تجلى لنا فيه جمال الكون وصانعه ، فكنت ترى السماء صافية الأديم، زاهرة النجوم، وكوكب الزهرة مقبلا من ناحية المشرق يحفه الجمال والجلال، فلولا التقى لقلت: جلت قدرته! وترى البحر كأنه مرآة مصقولة تنظر السماء فيها وجهها، فكأنما الماء سماء، وكأن السماء ماء، وترى النوتية مجدين في التجديف على حال لو هممت بتشبيهها بشيء حسن لاضطرك حسنها إلى رده إليها.
مجاذف كالحيات مدت رءوسها
على وجل في الماء كي تروي الظما
كما أسرعت عدا أنامل حاسب
بقبض وبسط يسبق العين والفما
11
ناپیژندل شوی مخ
وفيما بين ذلك تسمع فضل تغني في قبتها مواليا بغدادية ساحرة، وبين يديها مزهر تقلدته أطرافها:
تميت به ألبابنا وقلوبنا
مرارا وتحييهن بعد همود
إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى
صياح جنود وجهت لجنود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كله
كأنا من الفردوس تحت خلود
ومضى على ذلك ثلاثة أيام بلياليها كنا من أوقاتها في بلهنية
12
من العيش، وغفلة عن أعين الدهر، ووصال أخضر، ونعمى لا يشوبها بؤس ولا كدر، فلما كان اليوم الرابع - ولا كان - هبت علينا ريح عاصف رمتنا بها الأقدار من حيث لا ندري، فأرغى البحر وأزبد، وأبرق وأرعد، وتلاطمت الأمواج، واهتاجت أيما اهتياج، وصار بها - عمرك الله - مثل الجنون، وتراءت في صورها المنون.
ناپیژندل شوی مخ
وقد فغر الحمام هناك فاه
وأتلع جيده الأجل المتاح
13
فانقلب يسرنا عسرا، وأدال الله من الحلو مرا، وعظم الخطب، وعم الكرب، ونحن في ذلك قعود كدود على عود، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء، وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين.
البحر صعب المرام جدا
لا جعلت حاجتي إليه
أليس ماء ونحن طين
فما عسى صبرنا عليه
14
ولبثنا على هذه الحال من ظهر اليوم الرابع إلى سحره، وبعد ذلك فترت الحال بعض الفتور، ثم جاءت ريح رخاء زجت السفينة إلى بر جزيرة أقريطش «كريد» أهنأ تزجية، وأخذنا نسير في محاذاتها، فما كان إلا كلا ولا حتى وصلنا إلى مدينة الخندق؛
ناپیژندل شوی مخ
15
إحدى مدنها ومرافئها العظيمة، فأرسينا بها ريثما نشتري منها ما يعوزنا من الخبز واللحم والماء والفاكهة.
أقريطش
وهذه الجزيرة من جزر بحر المغرب الكبيرة، فيها مدن وقرى كثيرة، يقابلها من بر أفريقيا لوبيا، وجميع سكانها الآن مسلمون، وأميرها يسمى عبد العزيز بن شعيب؛ من ولد أبي حفص البلوطي الأندلسي،
16
وذلك فيما علمت أن الحكم بن هشام؛ أمير الأندلس؛ كان قد أمعن صدر ولايته في اللذات، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة؛ مثل: يحيى بن يحيى الليثي؛ صاحب مالك وأحد رواة الموطأ عنه، وطالوت الفقيه، وغيرهما، فنقموا عليه، وثاروا به، وبايعوا بعض قرابته، وكانوا بالربض الغربي من قرطبة - محلة متصلة بقصره - فقاتلهم الحكم واستلحمهم، وهدم ديارهم ومساجدهم، فلحقوا بفاس من أرض العدوة
17
وبالإسكندرية. وبعد أن أقاموا في الإسكندرية حينا من الدهر، تلاحى رجل منهم مع جزار من سوقتها، فنادوا بالثأر، واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم، وامتنعوا بها، وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي - ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح؛ من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة - فقام برئاستهم.
وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر من جهة المأمون، فزحف إليهم وحصرهم بالإسكندرية، فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى هذه الجزيرة - أقريطش - فعمروها، وأضاءوها بنور الإسلام، وشيدوا بها المعاقل والحصون والمدن العظيمة؛ مثل الخندق التي اشترينا منها خبزنا ولحمنا، وبهرنا ما رأينا فيها من حضارة العرب وعز الإسلام، ولا يزال أميرها إلى اليوم - وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة - من ولد أبي حفص البلوطي، وهو الأمير عبد العزيز بن شعيب، أدام الله عليه ملكه، وأبعد عنه كيد الأعداء.
ولما أقلعنا عن بر جزيرة أقريطش؛ أسعدت الريح، وأصحت السماء، ونام عنا البحر، وأخذت السفينة تشق اليم شق الجلم،
ناپیژندل شوی مخ
18
وأخذنا في سمت جزيرة صقلية
Sicily ، وما زلنا حتى قطعنا سبعمائة ميل في مدى أربعة أيام بلياليها. ولما قاربنا صقلية، وصرنا منها أدنى ذي ظلم؛
19
أخذت أعيننا أشباحا كالأعلام تسير على وجه الماء تنضم إلى بعضها تارة، وتنصاع كسرب القطا أخرى، فتساءلنا، فقيل لنا: إن هذا أسطول المعز لدين الله أبي تميم معد العبيدي يغدو ويروح بين صقلية وبين قلورية
Calabria
من بر الأرض الكبيرة «أوروبا»، فاغتبط بهذا المنظر تاجر مغربي أديب من أهل المهدية نزل معنا من أقريطش بنية الوفود إلى صقلية، وأخذت منه هزة الطرب حين رأى أسطول بلده، ورفع عقيرته - وقد أنافت برأسه النعرة - نعرة العصبية - قائلا: لله أبو القاسم محمد بن هانئ الأندلسي؛ شاعر سيدنا المعز، لكأنه يرى ما نرى الآن حين يقول في هذا الأسطول:
أما والجواري المنشآت
20
التي سرت
ناپیژندل شوی مخ
لقد ظاهرتها
21
عدة
22
وعديد
23
قباب
24
كما ترخي القباب على المها
25
ناپیژندل شوی مخ
ولكن من ضمت عليه أسود
عليها غمام مكفهر صبيره
26
له بارقات جمة ورعود
أنافت بها أعلامها
27
وسمالها
بناء على غير العراء مشيد
من الراسيات الشم لولا انتقالها
فمنها قنان شمخ وريود
ناپیژندل شوی مخ
28
من الطير إلا أنهن جوارح
فليس لها إلا النفوس مصيد
من القادحات النار تضرم للصلى
فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غيظا ترامت بمارج
كما شب من نار الجحيم وقود
فأفواههن الحاميات صواعق
وأنفاسهن الزافرات حديد
لها شعل فوق الغمار
ناپیژندل شوی مخ
29
كأنها
دماء تلقتها ملاحف سود
تعانق موج البحر حتى كأنه
سليط له فيه الذبال عتيد
30
ترى الماء فيها وهو قان عبابه
كما باشرت ردع الخلوق جلود
31
فليس لها إلا الرياح أعنة
ناپیژندل شوی مخ
وليس لها إلا الحباب كديد
32
وغير المذاكي نجرها
33
غيرانها
مسومة تحت الفوارس قود
رحيبة مد الباع وهي نتيجة
بغير شوى
34
عذراء وهي ولود
ناپیژندل شوی مخ
35
تكبرن عن نقع
36
يثار كأنها
موال
37
وجرد الصافنات عبيد
لها من شفوق العبقري ملابس
38
مفوفة
ناپیژندل شوی مخ
39
فيها النضار جسيد
40
كما اشتملت فوق الأرائك خرد
41
أو التفعت فوق المنابر صيد
42
لبوس تكف الموج وهو غطامط
43
وتدرأ بأس اليم وهو شديد
ناپیژندل شوی مخ