قلت: المشهور في الأحاديث الصّحيحة أنّهما غسّلاه بماء زمزم. فلذلك جزم البلقينيّ وغيره من المتأخّرين أنّ ماء زمزم أفضل من الكوثر.
ثمّ ماتت لسنّ تمييزه أمّه، وكفله جدّه، ثمّ عمّه، ولم يزل ﷺ ينشأ وعين العناية ترعاه وتحفظه ممّا يحذره ويخشاه، ومنحه الله تعالى منذ نشأ كلّ خلق جميل، وأحلّه من القلوب بالمحلّ الجليل، وعرف من بين أقرانه بالعفّة والصّيانة، وتميّز عند أهل زمانه بالصّدق والأمانة.
ولمّا أخذت مطالع بعثته في أفق سموّها، وآن لشمس نبوّته أن تطلع من علوّها؛ حبّبت إليه الخلوة للأنس بربّه. فكان يخلو في (حراء) ويتنعّم بقربه، وكانت تظهر له الأضواء والأنوار، وتسلّم عليه بالرّسالة الأحجار والأشجار.
ثمّ كان وحيه مناما، وتعليمه إلهاما، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ولا ينوي أمرا إلّا ظفر بالفوز والنّجح.
فلمّا بلغ الأربعين؛ جاءه جبريل الأمين من ربّه ذي الجلالة، بمنشور «١» النّبوّة والرّسالة، فأقرأه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق ٩٦/ ١- ٥] .
فمكث ﷺ ب (مكّة) ثلاث عشرة سنة، يدعوهم إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، فامن به من سبقت له السّعادة في دار البقاء، وكذّب به من كتب عليه في الأزل الشّقاء.
_________
(١) المنشور: بيان بأمر من الأمور يذاع بين النّاس ليعلموه. (أنصاريّ) .
1 / 56