بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَهُوَ حسبي
قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد بن السَّيِّد البطليوسي رَحْمَة الله عَلَيْهِ سَأَلتنِي أبان الله لَك الخفيات وعصمك من الشُّبُهَات وأمدك بِنور من الْعقل يجلو عَن عين بصيرتك ظلم الْجَهْل حَتَّى ترى بِعَين لبك مَرَاتِب المعقولات كَمَا رَأَيْت بِعَين جسمك مَرَاتِب المحسوسات عَن معنى قَول الْحُكَمَاء إِن تَرْتِيب الموجودات عَن السَّبَب الأول يَحْكِي دَائِرَة وهمية تبدأ من نقطة وَترجع إِلَيْهَا ومرجعها فِي صُورَة الْإِنْسَان
وَعَن قَوْلهم إِن الْإِنْسَان تبلغ ذَاته بعد مماته إِلَى حَيْثُ يبلغ علمه فِي حَيَاته وَإِن علمه يَحْكِي أَيْضا دَائِرَة وهمية
وَعَن قَوْلهم إِن فِي قُوَّة الْعقل الجزئي أَن يتَصَوَّر بِصُورَة الْعقل الْكُلِّي
وَعَن قَوْلهم إِن الْعدَد دَائِرَة وهمية كدائرة الْآحَاد والعشرات ودائرة المئات ودائرة الألوف
1 / 33
وَعَن قَوْلهم إِن صِفَات الْبَارِي تَعَالَى لَا يَصح أَن يُوصف بهَا إِلَّا عَن طَرِيق السَّلب
وَعَن قَوْلهم إِن البارئ تَعَالَى لَا يعرف إِلَّا نَفسه
وَمَا الْبُرْهَان على بَقَاء النَّفس الناطقة بعد الْمَوْت
وَهَذِه أعزّك الله مطَالب ضيقَة المسالك وَكَثِيرًا مَا تُفْضِي بسالكها إِلَى المهالك وسأقول فِيهَا بِمَا انْتهى اليه علمي وأحاط بِهِ فهمي
وَبِاللَّهِ أَعْتَصِم من الْخَطَأ والزلل وإياه أسأَل التَّوْفِيق إِلَى الصَّوَاب من القَوْل وَالْعَمَل لَا رب غَيره
1 / 34
الْبَاب الأول فِي شرح قَوْلهم إِن تَرْتِيب الموجودات عَن السَّبَب الأول يَحْكِي دَائِرَة وهمية مرجعها إِلَى مبدئها فِي صُورَة الْإِنْسَان
أَقُول وَبِاللَّهِ أَعْتَصِم مخبرا عَن أغراضهم ومقاصدهم وَإِن كنت اسْتعْملت على جِهَة التَّقْرِيب ألفاظا غير ألفاظهم إِن البارئ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يسمونه السَّبَب الأول وَالْعلَّة الأولى وَعلة الْعِلَل لما كَانَ هُوَ الَّذِي أَفَاضَ الموجودات وَأعْطى كل مَوْجُود مِنْهَا قسطه من الْوُجُود وَلم ٠ يجز فِي الْحِكْمَة أَن تكون كلهَا فِي مرتبَة وَاحِدَة صَار بَعْضهَا أرفع من بعض وَبَعضهَا أحط من بعض وَصَارَ وجود أقربها مرتبَة مِنْهُ وساطة لوُجُود أبعدها فَلَا يُوجد أبعدها مِنْهُ إِلَّا بِوُجُود أقربها مِنْهُ وتوسطه
وَلست أُرِيد بِذكر الْقرب والبعد إِثْبَات مَكَان لِأَن البارئ
1 / 35
﷿ لَا يُوصف بِالْمَكَانِ وَلَا بِالزَّمَانِ وَكَذَلِكَ كل مَعْقُول لَا مَادَّة لَهُ وَإِنَّمَا أُرِيد بِذكر الْقرب والبعد مراتبها فِي الْوُجُود
وَأقرب مَا يمثل بِهِ وجود الموجودات عَنهُ تَعَالَى وجود الْأَعْدَاد عَن الْوَاحِد وَإِن كَانَ البارئ تَعَالَى لَا يجوز أَن يشبه بِشَيْء وَكَذَلِكَ صِفَاته وأفعاله وَلكنه على جِهَة التَّقْرِيب فَكَمَا أَن الثَّلَاثَة لَا تُوجد عَن الْوَاحِد إِلَّا بتوسط وجود الِاثْنَيْنِ كَذَلِك الْأَرْبَعَة لَا تُوجد إِلَّا بتوسط وجود الثَّلَاثَة والاثنين وَلَا تُوجد الْخَمْسَة إِلَّا بتوسط وجود الْأَرْبَعَة وَالثَّلَاثَة والاثنين وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَعْدَاد
وَلِهَذَا صَار وجود كل وَاحِد عِلّة لوُجُود مَا بعده مَعَ كَون الْوَاحِد عِلّة لوُجُود جَمِيعهَا إِذْ كَانَ لَا يَصح وجود الْأَبْعَد إِلَّا بوساطة وجود الْأَقْرَب فَكَذَلِك يمثل بالتقريب وجود الموجودات عَن البارئ تَعَالَى لَا على الْحَقِيقَة
وَمَعْلُوم أَن الشَّيْء لَا يشبه بِغَيْرِهِ من جَمِيع جهاته إِنَّمَا يشبه بِهِ فِي بعض مَعَانِيه وَصِفَاته فَلَمَّا كَانَ وجود الموجودات عَنهُ تَعَالَى على هَذِه
1 / 36
الصّفة كَانَ كَمَال كل مَوْجُود على قدر مرتبته مِنْهُ فِي الْوُجُود فَكَانَ أكملها وجودا وأقلها نقصا الْمَوْجُود الَّذِي هُوَ فِي مرتبَة الِاثْنَيْنِ تمثيلا وتقريبا لما قدمْنَاهُ من الْعدَد فِي ذَلِك ثمَّ الثَّالِث أنقص من الثَّانِي ثمَّ الرَّابِع أنقص من الثَّالِث وَهَكَذَا لم تزل الموجودات تنقص مرتبَة مرتبَة على قدر بعْدهَا من الْمرتبَة الأولى حَتَّى انْتَهَت إِلَى أنقصها مرتبَة الَّذِي لَا أنقص مِنْهُ إِذْ كَانَت مَرَاتِب الموجودات متناهية وَكَانَ إِثْبَات مَالا نِهَايَة لَهُ بِالْفِعْلِ من الْمحَال وَإِنَّمَا يَصح إثْبَاته بِالْقُوَّةِ والإمكان ثمَّ تنعكس الموجودات متصاعدة من أدناها مرتبَة إِلَى أَعْلَاهَا إِلَى أَن تَنْتَهِي إِلَى أكمل الْمَرَاتِب الَّتِي جعل لَهَا بالطبع أَن تبلغها وتسلك فِي تصاعدها المسلك الَّذِي سلكته فِي تسافلها أَعنِي أَنَّهَا لَا تصعد إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة إِلَى بعد الأولى وَلَا الرَّابِعَة إِلَّا بعد الثَّالِثَة
وَبَيَان ذَلِك أَن البارئ تَعَالَى لَهُ الْمرتبَة الأولى من الْوُجُود وَهُوَ متوحد بِوُجُودِهِ لَا يشركهُ فِي وجوده شَيْء كَمَا لَا يشركهُ فِي شَيْء من صِفَاته
1 / 37
وَأول مَوْجُود أوجده وأبدعه تَعَالَى الموجودات الَّتِي يسمونها الثواني ويسمونها الْعُقُول الْمُجَرَّدَة عَن الْمَادَّة وَهِي تِسْعَة على عدد الْآحَاد التِّسْعَة ترتبت فِي الْوُجُود عَنهُ كمراتب الْأَعْدَاد أول وثان وثالث إِلَى التَّاسِع الَّذِي هُوَ نهايتها كَمَا صَار التَّاسِع من الْعدَد نِهَايَة الْآحَاد
وَأول هَذِه الثواني بِالنِّسْبَةِ إِلَى الله تَعَالَى فِي مرتبَة الِاثْنَيْنِ على وَجه التَّقْرِيب وبالنسبة إِلَى الموجودات المبدعات فِي مرتبَة الْوَاحِد لِأَن البارئ تَعَالَى بَائِن عَن الموجودات غير مَوْصُوف بِشَيْء من صفاتها وكل وَاحِد من هَذِه التِّسْعَة مَوْجُود عَن البارئ تَعَالَى بتوسط وجود كل وَاحِد من هَذِه التِّسْعَة
ثمَّ تلِي مرتبَة هَذِه الثواني التِّسْعَة فِي الْوُجُود مرتبَة الْعقل الْمُوكل بعالم العناصر وَهُوَ الَّذِي يسمونه الْعقل الفعال وَهُوَ يُوَافق الموجودات الثواني التِّسْعَة فِي أَنه عقل مُجَرّد من الْمَادَّة مثلهَا وَإِنَّمَا فصلوه مِنْهَا وجعلوه لَهَا مرتبَة عاشرة على حِدة لوَجْهَيْنِ
1 / 38
أَحدهمَا أَن الثواني التِّسْعَة موكلة بالأفلاك التِّسْعَة وَالْعقل الفعال مُوكل بعالم العناصر
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن هَذَا الْعقل الفعال تسري قوته فِي الأجرام الناطقة الَّتِي دون فلك الْقَمَر كَمَا يسري نور الشَّمْس وَعنهُ يحصل النُّطْق فِي كل مكون مستعد لقبُول الْقُوَّة الناطقة وكل مَا تجوهر من الموجودات الطبيعية فَهُوَ بِهِ مُلْحق وَهَذَا الْمَعْنى لَيْسَ بموجود فِي الثواني
وَذكروا أَن فيض الْعُقُول الْمُجَرَّدَة انْقَطع عِنْد الْعقل الفعال فَلَيْسَ بعد مرتبته إِلَّا مرتبَة النَّفس الناطقة وَإِنَّمَا وَجب أَن يَنْقَطِع فيض الْعُقُول الْمُجَرَّدَة عِنْده لِأَنَّهُ اجْتمعت فِيهِ قوى الْعُقُول التِّسْعَة كلهَا فَصَارَ مبدأ لما دونه من الموجودات كَمَا اجْتمعت قوى الْآحَاد التِّسْعَة من الْعدَد فِي الْعشْرَة فَصَارَت بذلك مبدأ لما عَداهَا من العشرات وَلذَلِك جعلُوا هَذَا الْعقل الْمُجَرّد عَن الْمَادَّة فِي مرتبَة الْعشْرَة من الْعدَد أَلا ترى أَن الْعشْرَة فِي مرتبَة الْوَاحِد وَالْعِشْرين فِي مرتبَة الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِينَ فِي مرتبَة الثَّلَاثَة حَتَّى تصير التِّسْعُونَ فِي مرتبَة التِّسْعَة فينتهي وجود العشرات فِي التسعين وَتصير المئة فِي مرتبَة الْوَاحِد
1 / 39
وسنزيد هَذَا بَيَانا عِنْد ذكرنَا دوائر الْعدَد الوهمية إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ تلِي مرتبَة الْعقل الفعال فِي الْوُجُود مرتبَة النَّفس وَهِي مُوَافقَة للعقول الْمُجَرَّدَة من الْمَادَّة فِي أَنَّهَا لَيست بجسم كَمَا أَن تِلْكَ لَيست أجساما وَهِي مُخَالفَة لَهَا فِي أَنَّهَا تُوجد مَعَ الْجِسْم وتقترن بِهِ فأكسبها ذَلِك كدرا وظلمة وَلذَلِك صَارَت نفس الْإِنْسَان تجْهَل ذَاتهَا وَلَا ترَاهَا حَتَّى تستضئ بِنور الْعقل
وَهِي فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة رجل حصل فِي ظلمَة فَهُوَ لَا يرى جِسْمه وَلَا غَيره فَإِذا أَضَاء لَهُ الجو وسرى فِي عَيْنَيْهِ نور الشَّمْس رأى حِينَئِذٍ جسده وَمَا حوله من الجسمان كَذَلِك النَّفس تمنعها ظلمَة الْجَهْل من رُؤْيَة ذَاتهَا ورؤية الصُّور الْعَقْلِيَّة الْمُجَرَّدَة فَإِذا أَفَاضَ الْعقل نوره رَأَتْ ذَاتهَا وَغَيرهَا من المعقولات
وَلها مَرَاتِب كَثِيرَة كَمَا كَانَ للعقول الْمُجَرَّدَة الْمَذْكُورَة مَرَاتِب فَمن الْحُكَمَاء من رأى أَن مراتبها اثْنَتَا عشرَة تسع للأفلاك وَثَلَاث لما تَحت فلك الْقَمَر وَهِي
1 / 40
النَّفس النباتية
وَالنَّفس الحيوانية
وَالنَّفس الناطقة
وَمِنْهُم من جعلهَا خمس عشرَة مرتبَة تسع للأفلاك وَخمْس لما تَحت فلك الْقَمَر وَهِي
النَّفس النباتية وَهِي أدناها مرتبَة
وفوقها النَّفس الحيوانية
وفوقها النَّفس الناطقة
وفوقها النَّفس الفلسفية
وفوقها النَّفس النَّبَوِيَّة
فَهَذِهِ أَربع عشرَة مرتبَة وَالْخَامِسَة عشرَة مرتبَة النَّفس الْكُلية وَنحن نذْكر خَواص كل وَاحِدَة من هَذِه النُّفُوس وفصولها ليتبين صِحَة هَذَا التَّقْسِيم إِذا فَرغْنَا من هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَنَرْجِع إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ من مَرَاتِب الموجودات فَنَقُول إِن الَّذِي يَلِي مرتبَة النَّفس فِي الْوُجُود مرتبَة الصُّورَة ثمَّ يَلِي مرتبَة الصُّورَة مرتبَة
1 / 41
الْجَوْهَر الْحَامِل للصورة وَإِنَّمَا جعلت مرتبَة الصُّورَة قبل مرتبَة الْجَوْهَر الْحَامِل للصورة بِوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَنا بدأنا من أَعلَى مَرَاتِب الموجودات منحدرين إِلَى أدناها فَكَانَت الصُّورَة على هَذَا التَّرْتِيب قبل الْجَوْهَر الْحَامِل لَهَا وَلَو بدأنا من أدنى مَرَاتِب الموجودات متصاعدين إِلَى أَعْلَاهَا لَكَانَ الْجَوْهَر الْحَامِل للصورة قبل الصُّورَة فِي الرُّتْبَة
وَهَذَا الْجَوْهَر الْحَامِل للصورة صنفان
أرفعهما الْجَوْهَر الَّذِي يحمل صُورَة الأفلاك وَمَا فِيهَا وَأَدْنَاهَا الْجَوْهَر الَّذِي يحمل الصُّورَة الَّتِي تَحت فلك الْقَمَر وَهَذَا الْجَوْهَر الْحَامِل لصورة الموجودات الَّتِي دون فلك الْقَمَر يسمونه الهيولى وَإِنَّمَا فصل هَذَا الْجَوْهَر من الْجَوْهَر الْحَامِل لصورة الأفلاك وَمَا فِيهَا من
1 / 42
الْكَوَاكِب وَإِن كَانَا قد اتفقَا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا جَوْهَر حَامِل للصور لِأَن صور الأفلاك وَالْكَوَاكِب ثَابِتَة فِي موضوعاتها وَهَذَا الْجَوْهَر الآخر صُورَة غير ثَابِتَة لِأَنَّهُ يلبس الصُّورَة تَارَة ويخلعها تَارَة فَهُوَ مُسْتَحِيل متغير بجملته وَذَلِكَ إِنَّمَا يتَغَيَّر ويستحيل بِالْمَكَانِ وَمَا فِيهِ من اخْتِلَاف النّسَب
وَهَذِه الهيولى عِنْدهم أحط الموجودات وأنقصها مرتبَة وَمِنْهَا تبدأ الموجودات الطبيعية بالترقي صاعدة نَحْو أَعلَى مراتبها بعكس حَالهَا حِين انحدرت إِلَى أدنى مراتبها وَإِنَّمَا يكون ذَلِك لدوران الأفلاك حولهَا ولباسها للصور الَّتِي كَانَت فِيهَا بِالْقُوَّةِ ثمَّ تخرج بدوران الأفلاك إِلَى الْفِعْل كَمَا شَاءَ بارئها لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
فَأول صُورَة لبستها الهيولى صور الْأَركان الْأَرْبَعَة الَّتِي هِيَ
1 / 43
الأَرْض وَالْمَاء والهواء وَالنَّار فَكَانَ ذَلِك أول كَمَال لحقها ثمَّ لبست صور الْمَعَادِن بوساطة صور الْأَركان ثمَّ صور النَّبَات بوساطة صور الْمَعَادِن وصور الْأَركان ثمَّ صُورَة الْحَيَوَان غير النَّاطِق بوساطة صور النَّبَات وصور الْمَعَادِن وصور الْأَركان ثمَّ صُورَة الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ حَيَوَان نَاطِق بتوسط صور الْحَيَوَان غير النَّاطِق وصور النَّبَات وصور الْمَعَادِن وصور الْأَركان
فَكَانَت صُورَة الْإِنْسَان أكمل الصُّور الطبيعية وَلَا مرتبَة بعْدهَا إِلَّا أَن يتجوهر الْإِنْسَان بالمعارف فَيلْحق بمرتبة المعقولات الْمُجَرَّدَة من الهيولى والمادة الشبيهة بالهيولى أَعنِي مَوْضُوع صور الأفلاك وَمَا فِيهَا فَإِذا حصل بالتجوهر فِي مرتبَة المعقولات حصل فِي الْمرتبَة الَّتِي مِنْهَا انحطت النَّفس الناطقة إِلَى الأجرام وَهِي مرتبَة الْعقل الفعال فَصَارَت الموجودات بِهَذَا الِاعْتِبَار كدائرة استدارت حَتَّى التقى طرفاها وَصَارَ الْإِنْسَان آخر الدائرة الَّذِي يرجع على أَولهَا إِلَّا أَن الْإِنْسَان عِنْدهم لَا يلْحق عِنْد تجوهره بِأول الثواني الَّذِي هُوَ أَعْلَاهَا مرتبَة وَإِنَّمَا أقْصَى كَمَاله أَن يلْحق بالمرتبة الْعَاشِرَة وَهِي مرتبَة الْعقل الفعال
1 / 44
فَهَذَا مَذْهَب أرسطا طاليس وأفلاطون وسقراط وَغَيرهم من
1 / 45
مشاهير الفلاسفة وزعمائهم الْقَائِلين بِالتَّوْحِيدِ
وَأما فلاسفة الْمَجُوس فزعموا أَن الْعُقُول الْمُفَارقَة للمادة يترقى بَعْضهَا إِلَى مرتبَة بعض حَتَّى يصير أَعْلَاهَا فِي مرتبَة البارئ ﷿ تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الجاهلون علوا كَبِيرا وَهَذَا القَوْل كفر مَحْض عِنْد أرسطاطاليس وَجَمِيع من ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ يُوجب اسْتِحَالَة البارئ تَعَالَى عَن قَوْلهم
فَإِن قَالَ قَائِل فَكيف صَار كالدائرة وَإِنَّمَا لحق بمرتبة الْعقل الفعال على رَأْي أرسطو وَهِي الْمرتبَة الْعَاشِرَة وَإِنَّمَا كَانَ حكمه إِذا كَانَ كالدائرة أَن يرجع إِلَى الثَّانِي الَّذِي هُوَ أول مَوْجُود بَدَأَ مِنْهُ الْفَيْض
فَالْجَوَاب عَن هَذَا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن الْعقل الفعال هُوَ فِي الْمرتبَة الْعَاشِرَة عِنْدهم وَهُوَ
1 / 46
آخر المعقولات الْمُفَارقَة عِنْد انحدار الْوُجُود وَهُوَ أَولهَا عِنْد تصاعد الْأَشْيَاء فَإِذا بلغ الْعقل الإنساني تِلْكَ الْمرتبَة كَانَ بِمَنْزِلَة رُجُوع أحد طرفِي الدائرة على الآخر
وَالْوَجْه الثَّانِي
أَن الْعقل الإنساني لَيْسَ مبدؤه من الثواني عِنْدهم إِنَّمَا مبدؤه من الْعقل الفعال فَإِذا عَاد إِلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَة الدائرة
وَقد وَجب علينا أَن نصل بِهَذَا الْبَاب ذكر خَواص النُّفُوس الْخمس الَّتِي قدمنَا ذكرهَا ليتبين الْفرق بَينهَا إِذْ كَانَت الخاصية قد تقوم مقَام الْفَصْل الْجَوْهَرِي فِيمَا يتَعَذَّر تحديده
خَواص النَّفس النباتية وَتسَمى الشهوانية
خَواص هَذِه النَّفس النزاع إِلَى الْغذَاء وَطَلَبه والالتذاذ بِوُجُودِهِ إِذا وجدته والاستضرار بفقده إِذا فقدته واستدعاء الْمُوَافق من الأغذية وَدفع الْمُخَالف وَحفظ الشَّيْء بشخصه ونوعه
1 / 47
أما حفظ شخصه فَإِنَّهُ يكون بالغذاء وَأما حفظ نَوعه فبالتوليد وَيُسمى هَذَا الْحِفْظ التَّقْوِيم الطبيعي وَلها الهياكل غير اللحمية والأعضاء المتشابهة الْأَجْزَاء وَلها سبع قوى
جاذبة
وممسكة
وهاضمة
ومغذية
ودافعة
ومنمية
ومصورة
وَلها، من الشُّعُور والإحساس تَمْيِيز الْجِهَات السِّت وإرسال الْعُرُوق نَحْو الْمَوَاضِع الندية وتوجيه الْفُرُوع والأغصان نَحْو الْمَوَاضِع المتسعة والانحراف عَن الْمَوَاضِع الضيقة
1 / 48
خَواص النَّفس الحيوانية وَتسَمى الغضبية
خَواص هَذِه النَّفس شَهْوَة النِّكَاح وشهوة الانتقام وشهوة الرياسة وَالْغَلَبَة وَلها الهياكل اللحمية والدموية وَقد يُوجد من هياكلها مَا لَا دم لَهُ وَلها الْأَعْضَاء الآلية وَالْحَرَكَة الإرادية الاختيارية وَلها الْحَواس الْخمس
وَمِنْهَا مَا ينقصهُ بعض الْحَواس
وَلها اللَّذَّة والألم
وَيُوجد لبعضها التخيل وَالوهم
خَواص النَّفس الإنسانية وَهِي الناطقة
خَواص هَذِه النَّفس الروية والفكر ومحبة الْعلم والمعرفة وَلها الهياكل المنتصبة وَالْعَمَل باليدين
1 / 49
خَواص النَّفس الْحكمِيَّة الفلسفية
خَواص هَذِه النَّفس محبَّة الْعُلُوم النظرية الَّتِي لَا يُرَاد مِنْهَا أَكثر من الْوُقُوف على حقائقها فَقَط والحرص على معرفَة أَسبَاب الْأَشْيَاء وعللها وَالِاسْتِدْلَال بظواهر الْأُمُور على بواطنها وَمَعْرِفَة مَرَاتِب الموجودات فِي الْوُجُود وَكَيف انبعثت عَن البارئ ﷿ وَكَيف انْبَعَثَ بَعْضهَا من بعض بِمَا سرى فِيهَا من وحدانية الله تَعَالَى الَّتِي حصلت لكل مَوْجُود ذَات ينْفَصل بهَا من ذَات مَوْجُود آخر
وَبهَا يكون وجود الصُّور فِي الهيولى وَفِي الْمَوْضُوع الشبيه بالهيولى وَهُوَ الْجَوْهَر الْحَامِل لصور الأفلاك وَالْكَوَاكِب وَهل الْعَالم قديم أَو مُحدث وَمَا الْفرق بَين الأزلي والمحدث
وَمَا الْفرق بَين الأزلي الْمُطلق والأزلي الْمُضَاف
وَمَا الْفرق بَين الْمُبْدع والمكون
وَكَيف صَار الْمُبْدع وَاسِطَة بَين الأزلي والمكون
1 / 50
وَهل خَالق الْعَالم وَاحِد أَو أَكثر من وَاحِد
وَإِقَامَة الْبَرَاهِين على أَنه لَا يَصح أَن يكون إِلَّا وَاحِدًا لَا يشبه شَيْئا وَلَا يُشبههُ شَيْء
وَمَا الْحِكْمَة فِي وجود الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ
وَمَا المكون مِنْهَا وَمَا الْمُبْدع
وَمَا الْفرق بَين الْفَاعِل على الْحَقِيقَة وَالْفَاعِل على الْمجَاز وَالْفَاعِل الْمُطلق وَمَا الْحِكْمَة فِي دوران الأفلاك حَرَكَة مستديرة غير مُسْتَقِيمَة
وَمَا الْوَاجِب وَمَا الْمُمكن وَمَا الْمُمْتَنع
وَكَيف صَار مَا فَوق الْأَرْبَعَة الْأَركان من حيّز الْوَاجِب وَمَا تَحت الْأَركان من حيّز الْمُمكن
وَمَا الموجودات الَّتِي أُوتيت كمالها فِي جواهرها وأفعالها وَمَا الموجودات الَّتِي لم تؤت كمالها لَا فِي جواهرها وَلَا فِي أفعالها فهما طرفان
1 / 51
وَمَا الموجودات الَّتِي أُوتيت كمالها فِي جواهرها وَلم تؤت كمالها فِي أفعالها فَصَارَت متوسطة بَين الطَّرفَيْنِ
وَلم سكن الصِّنْف الأول فَلم تكن لَهُ حَرَكَة وتحرك الصنفان الْآخرَانِ
وَمَا الْحِكْمَة فِي وجود النواميس والنبوات فِي عَالم الْكَوْن وَالْفساد
وَمَا الْفرق بَين النُّبُوَّة وَالسحر وَالْكهَانَة والفلسفة
وَكَيف تفيض قُوَّة الْوَحْي على الْأَنْبِيَاء
وَمَا الْفرق بَين الْإِنْسَان الَّذِي يُوحى إِلَيْهِ وَالَّذِي لَا يُوحى إِلَيْهِ
وَلم صَار الْإِنْسَان مَأْمُورا مَنْهِيّا دون غَيره
ومل سمي عَالما صَغِيرا وَسمي الْعَالم إنْسَانا كَبِيرا
وَمَا السياسة وَكم أَنْوَاعهَا
فَهَذِهِ الْأُمُور كلهَا من خَاصَّة النَّفس الفلسفية أَن تعرفها
1 / 52