وبهذا كان الغزالي يجدد حياته العلمية على فترات متعاقبة، كما دفعه الشك إلى عدم الرهبة من الخرافات المقدسة التي كانت تسبح في كتب عصره، أو التزييفات الدينية المحاطة بجلال وهمي في أذهان العامة، كما علمته عدم الرهبة أيضا حيال الأفكار والمذاهب التي تستند إلى أسماء خلدها الفكر والتاريخ؛ وبهذا نجا من التقليد كما نجا من الخضوع لفلسفة الإغريق.
بل إن هذه الشكوك هي التي أعدته لتلك الوثبة الكبرى إلى سماء الإيمان، وهي التي سهلت عليه عندما حصل اليقين اعتزال الحياة والناس؛ لينعم بمتاع عزيز على الحياة والناس.
وعظمة الغزالي تمت بسبب وثيق إلى هذا الشك؛ فهو الذي حمله على دراساته الكبرى، ومجادلاته العظمى، واشتباكاته المتعددة مع النحل والفرق والمذاهب، فلما حصل عنده اليقين كان يقين القوي الواثق الذي لا يداني ولا يماري.
كما أن هذا الشك كان علامة عقل كبير، لا يؤمن بقيود التقليد، بل يؤمن بنفسه أولا فيجل ما يهدي إليه العقل، ويرفض ما سواه.
ذلك الروح العظيم وذلك العقل الكبير، وهذا الاطلاع الشامل، وهذا الصراع بين العقل والروح، بين المشاعر والأحاسيس المختلفة؛ هو الذي أعد الغزالي لرسالته الخالدة.
فقد خرج الغزالي من هذا الصراع العنيف، وذلك التجاذب بين الدنيا والآخرة طاهرا نقيا كالسبيكة الذهبية تزيدها النار لمعانا وإجلالا، احترق الغزالي فتطهر فكرا وعقلا وقلبا.
كما ظهر تأثير تلك المرحلة واضحا في تكوين آرائه الاجتماعية والخلقية؛ لأنه استطاع أن يدرس في نفسه تقلبات الأهواء وإغراءات اللذة، ونعيم الطاعة ومتع العبادة، وخبر التصادم بين شهوات النفس وميول القلب وأسرار الروح، ولمس نقط الضعف في الإنسان، وعرف كيف تعالج وبأي أسلوب تداوى.
ولما آمن بعد شك كان إيمان الواثق الدارس لا إيمان المستسلم المقلد، فكان إيمانه هو الذي أتاح له تلك القوة الروحية الكبرى التي هيمن بها على عصره وعلى العصور التالية.
كما أن صقل نفسه وعقله بالمجاهدات أكسبه روحا تخفق على القرطاس، وتلمع بين الكلمات، وتملك على القارئ أحاسيسه، وتمنحه متاعا لقلبه ومتاعا لعقله ومتاعا لروحه، ندر أن يوجد عند غيره من سادة القلم والفكر.
كان الغزالي بنشأته وتأملاته وتنقلاته وكشوفه الروحية ودراساته العلمية أصلح قادة عصره لتلك الوثبة التي جدد بها روح الإسلام في القرن الخامس.
ناپیژندل شوی مخ