فارق المنصب الرفيع، والعيش الهنيء؛ للزهد والتقشف والتأملات العليا، وهو انقلاب بعيد المدى، لا في حياته وتاريخه، بل في تاريخ الفكر الإسلامي إلى يومنا.
وهذا الانقلاب هو سر خلود الغزالي؛ إذ به جدد نفسه، بل من آثاره أن جدد الغزالي الحياة الفكرية لعصره، بل كان من نتائجه أن طبع القرون التي تلته بطابعه وتفكيره.
فارق بغداد وفارق التدريس؛ ليلجأ إلى الله في بيته الحرام، بل ليهنأ بالإيمان ومعرفة الله عن طريق الاتصال الشخصي به، جاعلا الوساطة في ذلك الروح لا العقل، جاهد الغزالي نفسه جهادا خالدا ليخلصها من شوائب الحياة؛ حتى تصفو صفاء يؤهلها للمعرفة واليقين والتلقين.
يقول الغزالي:
نظرت إلى نفسي، فرأيت كثرة حجبها؛ فدخلت الخلوة واشتغلت بالرياضة والمجاهدة أربعين يوما،
3
فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي أصفى وأرق منه مما كنت أعرفه، فنظرت فيه، فإذا فيه قوة فقهية، فرجعت إلى الخلوة، واشتغلت بالمجاهدة والرياضة أربعين يوما، فانقدح لي علم آخر أرق وأصفى مما حصل عندي أولا، ففرحت به ثم نظرت فيه فإذا فيه قوة نظرية، فرجعت إلى الخلوة ثالثا أربعين يوما، فانقدح لي علم آخر هو أرق وأصفى، فنظرت فيه فإذا فيه قوة ممزوجة بعلم، ولم ألحق بأهل العلوم اللدنية، فقلت: إن الكتابة على المحو ليست كالكتابة على الصفاء الأول والطهارة الأولى.
وبهذا سلك الغزالي إلى الهداية مسلك الكشف الروحي، والتجأ إلى الاعتكاف والمجاهدة ليطهر نفسه، ويعدها للانقلاب الفكري العظيم.
خاتمة حياته
ومن البيت الحرام رحل الغزالي إلى دمشق، ويقول المقريزي في المقفى: «إنه جعل وهو في دمشق يعكف في زاوية في منارة الجامع الأموي ويلبس الثياب الخشنة، ويتقلل في مطعمه ومشربه، واعتزل الناس، وأخذ في تصنيف كتابه إحياء العلوم، وذهب يطوف المشاهد ويزور الترب والمساجد، ويروض نفسه على المجاهدات ويكلفها مشاق العبادات إلى أن لان له صعبها وسهل له بعد ضيق رحبها.»
ناپیژندل شوی مخ