والإنسان الذي هو جزء من هذا الوجود غير المدرك، أكثر ما يستعمل كلمة «حياة» ليعني كمية أيامه على الأرض ومجموع أعماله، وكمية أيام كائنات أحاطت به وقد امتاز عنها جميعا بما أوتي من إدراك وإرادة وحرية. فالجماد مثلا لا يتحرك إلا مرغما بفعل العناصر؛ كالأعاصير والرياح تقتلع الصخور، والأمطار تنحتها وتفتتها، أو بعامل آلي كالديناميت يدمر الآكام ويصعق الراسيات. والنبات، وإن تحرك مع النسيم ونشر شذاه في الهواء وكان له إحساسه الخاص كبعض النباتات التي تنكمش إذا ما لمست، إلا أن أصوله تظل أسيرة أرض تغذيها. والحيوان ينتقل من مكان إلى مكان بدافع الرغبة وبإيعاز الإدراك الذي لديه منه كمية ما. ولكن للإنسان وحده قوة التمييز والمقارنة والاستنتاج والإبداع في أتم أنواعها الممكنة. له وحده حرية الانتقال من جهة إلى جهة، والتفكير فيما شاء، وتنفيذ ما أراد. له وحده أن يتصرف بالموجودات التي يعقلها ويعالجها ويستخدمها لحاجته، وهي تعنو له صاغرة؛ لأنها لا تعقله وتبقى دونه مهارة ومقاومة، وإن جمحت يوما وفتكت به ساعة غضب عنجهي، فتلك طوارئ عاديات، كالصواعق والفيضان والطوفان والأوبئة التي لا تدوم غير وقت ما، ولسرعان ما يهب لمقاتلتها واختراع ما يمكنه منها ويقيه شرها. ولئن خنعت الموجودات إلى النظام الكلي الذي يسيرها قهرا فعاشت عيشتها الصخرية العشبية البهيمية وأدت وظيفتها المعينة جاهلة صاغرة، فإن الإنسان - وفي ذلك ميزته وفخره - لا يكتفي بتلك العيشة الابتدائية العنصرية ولا يعيشها مرغما بل سعيدا، مدبرا، مختارا، وهو فوق ذلك يخلق لنفسه غايات قومية وسياسية وفكرية وقلبية جمة، تتسابق إلى تحقيق غاية قصوى يوجه نحوها مجهوداته، ويجمع أعماله في شبه قناة حيوية تنتهي إلى تلك الغاية البعيدة، تلك الغاية المحبوبة التي يخالها تناديه وقد اتخذها كعبة آماله.
عند هذه الكلمة «كعبة الآمال» المرادفة لموضوعنا «غاية الحياة» يقف كل قلب ويزفر زفرة حارة؛ إذ يتساءل: «وما غايتي من الحياة؟ أأعرفها أنا؟ وهل تشعر هي أو تبالي بوجودي؟ ما هي يا ترى؟ أثروة أبتغي حشدها؟ أجاه، أم قدرة، أم حال أنعم فيها بجميع أسباب الهناء؟ وأتذوق خلالها لذائذ الفوز والسيطرة! أهي علم لا أفتأ أذهب في غوره ليكشف لعاقلتي حجب الحياة وأسرارها؟ أهي إرهاف ملكاتي الذهنية والنفسية إرهافا يرفعني فوق أقراني ويجعلني موضوع إعجابهم؟ أهي تقوى تدنيني من خالقي وتطمئن بها نفسي؟ أهي شخص أيقظ في حياة الوجدان العجيبة؟ وتمثلت لي في ذاته صفات الألوهية المعبودة حتى صرت أستهين لأجله بكل عزيز وأجازف بكل مكنون؟ وأين أنا الآن من ضالتي المنشودة؟ ماذا أكسبني جهاد الأعوام الغابرات، وإلى أين أوصلني ذلك الجهاد الطويل ؟ ماذا جنيت من الكد والتجلد والرجاء، وبعد دموع أرسلتها وأخرى أمسكتها، وزفرات أطلقتها وأخرى كتمتها؟ أراض أنا عن نفسي وعن غيري؟! أم أنا كلما خطوت خطوة إلى الأمام تقهقرت إلى الوراء خطوتين؟ أم أنا كنت أعلل النفس بشيء فلما صار لي وجدته شيئا آخر؟ أم أن ما كان يبدو لي حقيقة محسوسة إنما هو خداع فتان كلما جريت نحوه ملتمسا، ودنوت منه مستعطفا، ارتد وتباعد كما يرتد ويتباعد السراب في الصحراء، وعدت أنا إلى عذاب محتوم واصطبار جميل؟ غايتي من الحياة السعادة، فهل أنا سعيد؟»
وهنا يقف كل فترة أخرى ويزفر زفرة جديدة سعيدا كان أم شقيا؛ لأنه لا بد لكل قلب من فراغ لا يملأ ومن حاجة لا تسد؛ ولأن النفس البشرية تشبه بركة الماء مهما راقت صفحتها وتلألأ سطحها حركها قليلا تتعكر وتكفهر بما ركد في أعماقها من الأوحال، وفي أعماق كل نفس آلام ثاوية، وتذكارات جاثمة، وجراح صديدة اندمل بعضها على فساد، يكفي أن تلمسها يد أو إشارة لتمضها الأوجاع فتعمد إلى الاستغاثة والأنين. •••
إن السعادة غاية الجميع، أما السبيل إليها فمختلف باختلاف الطبائع. حرمها الناس طويلا فازداد شوقهم، واحتشدت في قلوبهم الكظوم والضغائن حتى لكأن الإنسانية تتحرك اليوم فوق بركان ثائر. ففي كل مكان حروب وتقاتل على المنافع، ومن الغريب أن النقيضين؛ أي: يقظة الوطنية وانتشار الاشتراكية، يسيران جنبا إلى جنب، والأمم جميعا على وجل واضطراب تنتظر من وقت إلى آخر تغير الأحوال ووقوع ما كان يرجى أو ما لم يكن ليرجى.
بيد أن الحياة العامة لا تأخذ من حياة الفرد سوى ساعات معدودة، وفي أشد حالاته تحمسا تظل حياته الداخلية على ما هي تقريبا. يظل له عوزه الذي لا يملؤه الغنى العام، تظل له آلامه الجسمية والروحية يتجرع مرارتها ويحتمل من وخزها ما لا يخدره التهليل العام، ترى ما هو تأثير تلك الأفراح الوطنية الجميلة في العليل اليائس؟! وفي المعدم الذي ليس لديه ما يسد رمق صغاره؟ وفي القلب الذي حوى جمرة تأكل سويداءه؟ وفي الصدر الذي اكتظت فيه الغموم؟ تلك لمحات ابتهاج تسطع ثم تترك القلب أكثر وحدة وسوادا، والعليل أكثر أسفا على أيامه المتتابعة كالأظلال.
السعادة هي الغاية، وما السعادة - في حقيقتها وعلى تنوع صورها في الأذهان - سوى تطور متتابع نحو حالة تستوفي عندها جميع القوى وسائل النمو والانبساط والظهور كاملة وافية بأقل ما يمكن من المقاومة والألم، هذا إذا تعذر الخلاص منهما على الإطلاق. وهل من تطور ونمو بلا عمل؟ لا جمود في الخليقة حيث كل مخلوق - حتى ولو اختفى وراء مظاهر الموت - يؤدي وظيفته ويتمم ما وجد لتتميمه، وكذلك كل خلية من خلايا الجسم تعمل لتؤدي وظيفتها. غير أن ذلك العمل الآلي ليس ليغني الفرد المفكر المريد الذي لا تكفيه الغاية العامة في الكون، إنما هو يعمل عملا خاصا إضافيا يتفق مع غايته المختارة، تتمرن عليه مجهوداته ويمارس به قواه. تلك السعادة التي يحلم بها لا بد أن يسعى إليها سعيا خصوصيا حثيثا أريبا في تحنيه وتشعبه وتنوعه. ومع ذلك ليست كل قيمة العمل في أنه موصل إلى الغاية المقصودة، ولكن قيمته المعنوية الكبرى في كونه آلة الاستقلال الفردي، وخالق الاحتياج إلى الاعتماد على النفس.
وما هو الاعتماد على النفس إن لم يكن مكيف الذاتية الحرة التي تدرك أهمية احتياج الآخرين إليها، وتدرك كونها مخلوقة على صورة الله ومثاله؛ لأن الله - وهو المبدع الأعظم - خلق الإنسان وأودعه قوى الإدراك والاختيار والابتكار التي لا تظهر إلا في العمل؟ فبهذا العمل الذي يخلقه الإنسان ويتقنه يصبح إلها صغيرا، بالعمل يكبر في عيني نفسه وتنسجم حوله هالة الكرامة المفرزة عناصرها من داخله، المتشبع ثقة بكفاءته وإقدامه، بالعمل يرفع رأسه الذي أحناه الطلب والاستنجاد، وينظر إلى الناس كأشباه لا هم فوقه ولا هم تحته، بل هم إخوان يعملون في سبلهم المختلفة.
وينظر إلى الحياة متفرسا في ملامحها بلا وجل؛ لأنه تعلم في مدرسة الاعتماد على النفس أن المصائب والمحن والمعاكسات الداخلية والخارجية تعجز عن النيل من قواه الجوهرية، وإن تلك الرزايا إنما هي عناصر اختبار ، له أن يستخرج منها دروسا قيمة ومعلومات جديدة تزيده قوة ونبلا.
ليس النبيل من ورث نسبا ومالا فاستخف بالناس والأشياء اتكالا على وراثته، بل النبيل من خلق نفسه، وما زال بها كل يوم يجددها بعمله ليخلف للمستقبل ثمرة مجهوداته، النبيل من لا ينتظر «الظروف» و«الحظ» و«البخت» تلك الكلمات التي يتمحل بها الذليل الخامل، بل ينتهز الفرص ليجعلها صفحات جليلة في كتاب عمره. وما الأيام والساعات سوى فرص ثمينة للنابه يستخرج منها العجائب. •••
هنا أود أن أحصر الموضوع في المرأة؛ لأن الموضوعات النسائية تستوقفنا بوجه خاص لنبحث فيها عن نقائصنا ونعرف مواطن ضعفنا؛ فنحاول الإصلاح ما استطعنا إليه سبيلا.
ناپیژندل شوی مخ