حضرة الأديب الكامل
وصلني كتابك المبشر ببلوغك المحل المقصود سالما فسررت لذلك وشكرت حسن ودادك، أما رسائلكم ل «السان» فهي عميمة الفائدة ولا تحتاج حذف شيء إذا حررت عند سكون البحر الذي هاج فرحا لاستقبالكم، أتمنى لك النجاح والتوفيق مؤكدا مودتي وإخلاصي للسليم.
حسن فائز
2 ك 1 سنة 1308
وكنت قبل مزايلتي بيروت أذهب في أكثر الليالي لزيارة المكتوبجي في بيته، فذكرت له يوما ما أنني إذا تمكنت من مزايلة بيروت والوصول إلى بلاد حرية يكون أول همي نشر جريدة حرة، قال: إننا نمنعها عن الدخول ونستعمل كل واسطة لمنعك عن كتابتها، ولما فارقت بيروت فجأة كتبت جريدة المصباح أنني ذهبت إلى لندن لإنشاء جريدة عربية هناك، الأمر الذي لم يكن يومئذ في خاطري، وأول ما رأيته في جريدة المصباح التي وصلتني وأنا في لندن فلم أهتم بتكذيب الخبر؛ لأنني لم أعلم أن تلك الإشاعة تكون سببا لاهتزاز رجال الدولة من أكبرهم إلى أصغرهم، أما أنا فلما وصلت إلى ميناء تلبوري أخذت دليل لندن وعلمت منه عنوان قنصلية الدولة العثمانية، فكتبت رسالة باللغة العربية إلى حضرة القنصل الجنرال أخبره فيها عن وصولي إلى إنكلترا، وأنني بصفة كوني من رعايا الدولة أحب أن أجري ما يقتضيه الواجب؛ لتعرف قنصلية دولتي وتعطيني الحماية اللازمة، فورد إلي في صباح اليوم التالي رسالة لطيفة من القنصلية مكتوبة باللغة العربية وأمضاها «أمين»، فلم أعرف من هو أمين هذا، وحسبت أنه من رجال الأتراك الذين يكتفون بتوقيع اسمهم الأول كأن السماوات والأرض تعرف من هم، ومضت على ذلك مدة طويلة ذهبت في غضونها إلى لندن ثم زرت نحو ثلاثين مدينة في إنكلترا، وكنت أتردد على لندن كل أسبوع. ولم أتمكن من زيارة القنصل ولم أر ما يستوجب زيارته بدون شغل خاص لعلمي أن المشغول لا يشغل، وبعد أن مضى علي نحو سنة في إنكلترا كنت ذات يوم في لندن أسير من جهة «كانون ستريت» فذكرت أنني على مقربة من القنصلية وقلت لا بأس أن أزور القنصل وأتعرف عليه، ولا شيء يشغلني الآن، فصعدت سلما ودخلت إلى باب عليه اسم القنصلية، فطرقت الباب ودخلت إلى غرفة واسعة ليس فيها إلا طاولة صغيرة جلس إليها شاب لطيف، ورأيت أمامي بابا يؤدي إلى غرفة داخلية وقد وقف فيه رجل لا أعرفه، فتقدم إلي الشاب وقال: ماذا تريد؟ قلت: أن أرى حضرة القنصل، وأعطيته تذكرة زيارتي، فأخذها وقدمها للرجل الواقف في باب الغرفة الثانية، فأخذها هذا ونظر فيها بإمعان مدة دقيقة، ثم صعد الدم إلى وجهه وقدحت عينه النار وأخذ يرتجف، ثم رمى بالتذكرة إلى الأرض مغضبا وقال باللغة العربية العامية: «فوت.» أي ادخل.
قلت: ومن أنت؟ قال بغضب أعظم: «أنا القنصل.» قلت: أظنني مخطئا، فقنصل دولتي لا يعاملني هذه المعاملة. فاندفع بالشتيمة والتهديد وصاح بي قائلا: «إنكم تخرجون من بلادكم ولا تذكرون أن لكم دولة أو حكومة، وأنت قد أقلقت رأسي وأتعبتني كثيرا وصيرتني في مركز حرج أخاف منه على منصبي، فكأنك تريد مزاحمتي على المنصب»، إلى غير ذلك من الكلام المهين، وأنا لا أفهم معناه، بل أنتظر ريثما ينتهي من الشتيمة فأخرج، وإذا بعزتلو يوسف أفندي إلياس، مهندس لبنان سابقا وصاحب امتياز سكة حديد حيفا، قد دخل فسلم علي وصافحني وانعطف علي بمزيد الشوق والتودد، ثم قال: ادخل لنجلس مع أمين أفندي برهة (يريد القنصل.) قلت: لست بفاعل؛ فإن الرجل أهانني كثيرا وأنا غير محتاج إليه، ولا زيارته واجبة علي، قال القنصل بلطف: «تفضل يا سيدي» على أثر ما رأى من إكرام صديقه يوسف أفندي لي، قلت: الآن أدخل؛ إذ لي معك كلام، لكنني لا أفعل حتى ترفع تذكرتي عن الأرض؛ إذ لا آمن أن تحصل لي الإهانة نفسها. ففعل ودخلت، فلما جلست قلت: ماذا أصابك يا هذا حتى عاملتني هذه المعاملة، وأية علاقة لي معك وبأشغالك ومركزك، مع أنك لا تعرفني ولا أعرفك؟ قال: أنت لا تعلم السبب، فمنذ زايلت بيروت ما برحت ترد إلي الأوامر من الآستانة بالتفتيش عليك ومراقبتك، وأنا لا أعرف مكانك، والأوامر من هناك ترد بتشديد ولا سبيل إلى إدراكك، قلت: إنما كان ذلك لأنني كنت أتجول في المملكة منزها الطرف في محاسنها، لكن ما الذي ألجأ الآستانة إلى هذا؟ قال: اسمع. وأخرج عدة كتب بعضها من وزارة الداخلية وغيرها من غيرها وبعضها من حسن فائز أفندي مكتوبجي ولاية بيروت، مآلها أن سليم أفندي سركيس من نبهاء بيروت وأحد كتابها البارعين سافر إلى لندن، والشائع أنه ينوي إصدار جريدة عربية في لندن. ولما كان لم يعرض ذلك على الباب العالي. ولما كان مثل هذه المشروعات الكتابية مضرا بصوالح السلطنة، اقتضى إصدار الأمر إليكم مشددا بوجوب مراقبة حركات سليم المذكور وسكناته، ورفع التقارير المتواصلة عن الخطب التي يلقيها والجمعيات التي يتردد عليها والجرائد التي يكتب فيها، وترسل تلك المقالات إلى الباب العالي ... إلى آخره فأضحكني اهتمام الدولة بهذه الأمور وقلت للقنصل: ماذا تريد مني الآن؟ قال: تذهب معي إلى رستم باشا السفير، قلت: لا أفعل، قال: إذن لا تخرج من هنا إلا معي إلى السفارة. قلت: أنت ترتكب أعظم خطأ؛ فلا سلطة لك علي، وكلمة واحدة ألفظها من هذه النافذة تجعلك تحت سلطة أول بوليس إنكليزي، أنسيت أننا في لندن أم الحرية؟ قال: لماذا لا تذهب لزيارة السفير؟ قلت: يظهر لي من معاملتك أن الدولة ملأت دماغك بالخوف مني، فإذا كانت هذه معاملتك لي فكيف تكون معاملة السفير! وأنا لا أحب أن أقابل دولته لئلا تحصل لي الإهانة التي حصلت هنا. وفضلا عن ذلك فإن الباب العالي إنما أمرك أن ترسل إليه التقارير عن تصرفاتي لا أن تقبض علي. قال: ومن لي بتلك التقارير؟ قلت: اسمح لي بساعة أعود بعدها بمادة كافية لتقريرك، قال: إنك إذا خرجت تكون أفلت من جرادة العيار، قلت: لدي هذه التحارير، وأخرجت تحارير من أصحاب جرائد الستاندرد والدايلي تلغراف، ومن المستر ت. ب. أوكونر صاحب جريدة الشمس وعضو ليفربول في البارلمانت، ومن الآنسة بريستلي إحدى محررات الصحف، ومن المستر استيد صاحب مجلة المجلات حالا ومحرر البال مال غازيت سابقا، فقرأها جميعا وفهم منها أن تلك الجرائد كانت تطلب مني مقالات عن تركيا وأنا لا أجيب طلبها. فأخذ من التحارير بعض العبارات ليبني عليها تقريره، وانصرفت من عنده وأقسمت ألا أزور قناصل الدولة في كل بلاد أزورها، وأنا أؤكد اليوم أن تلك الأوامر صدرت من سخافة عقول بعض رجال المابين الذين خافوا من نشر سيئاتهم بين الإفرنج.
وفي أواسط تشرين الثاني سنة 1893 بعد أن قضيت نحو سنة ونصف سنة في إنكلترا، عقدت النية على عدم الرجوع إلى سوريا، فقررت إصدار جريدة حرة بالاتفاق مع جون هزلمون مديرها الإنكليزي، ونشرت إعلانا وزعته على جميع البلدان العربية وخصوصا سوريا وجهاتها، وهذه صورته عن النسخة المطبوعة:
رجع الصدى
جريدة سياسية إصلاحية أسبوعية من لندن تقبل جميع المقالات والرسائل بدون توقيع أصحابها.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين . (سورة الأعراف) «قفوا على الطرق واسألوا عن السبل القويمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه.» (أرميا 6 : 16)
ناپیژندل شوی مخ