( رد على مقبل الوادعي )
تأليف
السيد العلامة المجتهد المجاهد الصابر /
بدر الدين بن أمير الدين الحوثي
حققه وقدم له
عبد الكريم أحمد جدبان
أعده إلكترونيا / فريق العمل ب مجالس آل محمد (ع)
www.al-majalis.com الطبعة الأولى
مخ ۱
1423ه- 2002م
حقوق الطبع محفوظة l
مخ ۲
مقدمة التحقيق
اعلم أنه لا يصح الاستدلال على خصم إلا بما هو حجة عليه، ولذا ترى الزيدية إذا كتبوا في الاحتجاج على أهل السنة، التزموا بذكر أخبارهم لا أخبارنا، وأهل السنة لم يلتزموا بقاعدة البحث، ولم يسلكوا طريق المناظرة، فإنهم يستدلون في مقام البحث بأخبارهم على مذهبهم، ويستندون إليها في الجواب عما نورده عليهم، وهو خطأ ظاهر، على أن كثيرا من أحاديثهم حرية بأن لا يصح الاستدلال بها في سائر مطالبهم حتى عندهم، وإن كانت مما توسم بالصحة بينهم، لكنها صالحة للاستدلال عليهم، وإثبات مناقب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومثالب أعدائهم، وإن ضعفوا جملة منها، وبيان المدعى يحتاج إلى البحث في مطالب:
أخبار الصحاح حجة على أصحابها
( المطلب الأول): إن عامة أخبارهم التي نستدل بها عليهم حجة عليهم لأمرين:
(الأول): أنها إما صحيحة السند عندهم أو متعددة الطرق بينهم، والتعدد يوجب الوثوق والاعتبار.
(الأمر الثاني): أنها مما يقطع عادة بصحتها، لأن كل رواية لهم في مناقب أهل البيت ومثالب أعدائهم محكومة بوثاقة رجال سندها، وصدقهم في تلك الرواية، وإن لم يكونوا ثقاة في أنفسهم ضرورة.
مخ ۳
إن من جملة ما تعرف به وثاقة الرجل وصدقه في روايته التي يرويها، عدم اغتراره بالجاه والمال، وعدم مبالاته في سبيلها بالخطر الواقع عليه، فإن غير الصادق لا يتحمل المضار بأنواعها لأجل كذبة يكذبها، لا يعود عليه فيها نفع ولا يجد في سبيلها إلا الضرر، ومن المعلوم أن من يروي في تلك العصور السالفة فضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام أو منقصة لأعدائه، فقد غرر بنفسه وجلب البلاء إليه، كما هو واضح لكل ذي أذن وعين.
ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ بترجمة الحافظ ابن السقا عبد الله بن محمد الواسطي قال: إنه أملى حديث الطير في واسط فوثبوا به وأقاموه وغسلوا موضعه.
وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان بترجمة النسائي أحمد بن شعيب صاحب كتاب (السنن) أحد الصحاح الستة: أنه خرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي في فضائله؟ فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل. وفي رواية أخرى: لا أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنه، فمازالوا يدفعون في حضنه. وفي رواية: يدفعون في خصييه، وداسوه حتى حمل إلى الرملة ومات بها.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو منقول. فإذا كان هذا فعلهم مع أشهر علمائهم لمجرد إنكار فضل معاوية، فما ظنك بفعلهم مع غيره إذا روى ما فيه طعن على الخلفاء الأول.
وذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة نصر بن علي بن صهبان نقلا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حدث نصر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد حسن وحسين فقال: (( من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة )) ، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه.
ونقل ابن حجر أيضا في الكتاب المذكور بترجمة أبي الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري: أنه لما حدث أبو الأزهر، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله، عن ابن عباس قال: نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي [عليه السلام] فقال: (( أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة ... )) الحديث، أخبر بذلك يحيى بن معين، فبينا هو عنده في جماعة إذ قال يحيى: من هذا الكذاب النيسابوري الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟! فقام أبو الأزهر فقال: هو ذا أنا!
مخ ۴
فتبسم يحيى فقال: أما إنك لست بكذاب، وتعجب من سلامته!! وقال: الذنب لغيرك في هذا الحديث.
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بترجمة أبي الأزهر: كان عبد الرزاق يعرف الأمور فما جسر يحدث بهذا الأثر إلا أحمد بن الأزهر والذنب لغيره. ويعني بغيره محمد بن علي بن سفيان البخاري كما بينه الذهبي.
فليت شعري ما الذي يخافه عبد الرزاق مع شرفه وشهرته وفضله؟! لولا عادية النواصب وداعية السوء!!وأن يواجهه مثل ابن معين بالتكذيب وأن يشيطوا بدمه، ويا عجبا من ابن معين لم يرض بكتمانه فضائل أمير المؤمنين عليه السلام حتى صار يقيم الحواجز دون روايتها!! وأعجب من ذلك قوله: الذنب فيه لغيرك، فإن رجال سند الحديث كلهم من كبار علماء القوم وثقاتهم، وما أدري ما الذي أنكره من هذا الحديث وهو لم يدل إلا على فضيلة مسلمة مشهورة من أيسر فضائل أمير المؤمنين؟! ولعله أنكر تمام الحديث وهو: (( من أحبك فقد أحبني، ومن أبغضك فقد أبغضني، وحبيبك حبيب الله، وبغيضك بغيض الله، والويل لمن أبغضك )). وذلك لأنهم ربما يجدون من أنفسهم بغض إمام المتقين، ويعسوب الدين، وهم يزعمون أنهم لا يبغضون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما يعلمون بغض معاوية وسائر البغاة لأمير المؤمنين، وأنهم أشد أعدائه والبغيضون له، وهم يرونهم أولياء الله وأحباءه، ولذا لما أشار الذهبي في الميزان إلى الحديث قال: يشهد القلب بأنه باطل، وأنا أشهد له بشهادة قلبه ببطلانه، إذ لم يخالط قلبه حب ذلك الإمام الأعظم، فكيف يصدق بصحته، وإن استفاضت بمضمونه الرواية، حتى روى مسلم: أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (( والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق )).
فإذا كان هذا حال ملوكهم وعلمائهم وعوامهم في عصر العباسيين، فكيف ترى الحال في عصر الأمويين الذي صار فيه سب أخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفسه شعارا ودينا لهم، والتسمية باسمه الشريف ذنبا موبقا عندهم؟!
مخ ۵
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة علي بن رباح: قال المقرئ: كان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه، فبلغ ذلك رباحا فقال: هو علي مصغرا، وكان يغضب من علي ويحرج على من سماه به. وقال الليث: قال علي بن رباح: لا أجعل في حل من سماني علي فإن اسمي علي.
ونقل ابن أبي الحديد (¬1) عن أبي الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب (الأحداث): أن معاوية كتب نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا في فضل أبي تراب وأهل بيته ... إلى أن قال ما حاصله: وكتب إلى عماله أن يدعوا الناس إلى الرواية في فضل عثمان والصحابة والخلفاء الأولين، وأن لا يتركوا خبرا يروى في علي إلا وأتوه بمناقض له في الصحابة، وقرئت كتبه على الناس وبذل الأموال، فرويت أخبار كثيرة في مناقبهم مفتعلة، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى تعلموه كما يتعلمون القرآن، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا عند ولاتهم ويصيبوا الأموال، حتى انتقلت تلك الأخبار إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها.
ثم قال: وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر.
ولهذه الأمور ونحوها خفي جل فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وإن جل الباقي عن الإحصاء، ونأى عن العد والاستقصاء، وليس بقاؤه إلا عناية من الله تعالى بوليه والدين الحنيف، ويشهد لإخفائهم فضائله ما رواه البخاري عن أبي إسحاق (¬2) قال: سأل رجل البراء وأنا اسمع أشهد علي بدرا؟ قال: بارز وظاهر.
مخ ۶
أترى أنه يمكن أن يخفى في الصدر الأول محل أمير المؤمين عليه السلام ببدر حتى يحتاج إلى السؤال عن مشهده بها، وهي إنما قامت بسيفه لولا اجتهاد الناس في كتمان فضائله، وإذا رووا شيئا منها فلا يروونه على وجهه وبتمامه، كما تدل عليه روايتهم لخطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغدير، أمن الجائز عقلا أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقم ما تحت الدوح ويجمع المسلمين وكانوا نحو مائة ألف، ويقوم في حر الظهيرة تحت وهج الشمس،على منبر يقام له من الأحداج ويصعد خطيبا، وهو بذلك الاهتمام،رافعا بعضد علي عليه السلام ثم لا يقول: (( ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه )). لا أرى عاقلا يرتضي ذلك ولا سيما إذا حمل المولى على الناصر أو نحوه، فلا بد أن تكون الواقعة كما رواها الشيعة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب تلك الخطبة الطويلة البليغة الجليلة التي أبان فيها عن قرب موته وحضور أجله، وأشاد إلى خليفته وولى الأمر من بعده، وأنه مخلف في أمته الثقلين، آمرا بالتمسك بهما لئلا يضلوا، وببيعة علي عليه السلام والتسليم عليه بأمرة المؤمنين، لكن القوم بين من لم يرو أصل الواقعة إضاعة لذكرها، وبين من روى اليسير منها بعد الطلب من أمير المؤمنين عليه السلام، فكان لها بعده نوع ظهور، وإن اجتهد علماء الدنيا في درس أمرها، والتزهيد بأثرها، ولو رأيت كيف يسرع كثير من علماؤهم في رمي الشخص بالتشيع الذي يجعله هدفا للبلاء ومحلا للطعن، لعلمت كيف كان اهتمامهم في درس فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وكيف كان ذلك الشخص في الإنصاف والوثاقة بتلك الرواية التي رواها، حتى أنهم رموا النسائي بالتشيع كما ذكره في وفيات الأعيان، وما ذلك إلا لتأليفه كتاب (خصائص أمير المؤمنين عليه السلام) وقوله: لا أعرف لمعاوية فضيلة إلا لا أشبع الله بطنه، مع استفاضة هذا الحديث حتى رواه مسلم في صحيحه.
مخ ۷
وكذا رموا بالتشيع أبا عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله، وأبا نعيم الفضل بن دكين، وعبد الرزاق، وأبا حاتم الرازي، وابنه عبد الرحمن، وغيرهم ممن لا ريب بتسننه من علمائهم، لروايتهم بعض فضائل آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنايتهم بها في الجملة، وما ذلك إلا ليحصل الردع بحسب الإمكان عن رواية مناقبهم وتدوينها، وإذا صحح قسما منها زاد طعنهم فيه وفي روايته، مع أن طريقتهم التساهل في باب الفضائل، لكن في فضائل أعداء أهل البيت عليه السلام !!!
فظهر مما ذكرنا لكل متدبر أن جميع ما روي في مناقب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا مثالب أعدائهم حق لا مرية فيه، ولا سيما مع روايته عندنا، وتواتر الكثير منه، فيكون مما اتفق عليه الفريقان وقام به الإسنادان، بخلاف ما روي في فضائل مخالفي أهل البيت، فإنه من رواية المتهمين بأنواع التهم، ولو كان له أقل أصل لتواتر البتة لوجود، المقتضي وعدم المانع، بعكس فضائل آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا سيما مع طلبهم مقابلة ما جاء في فضل أهل البيت عليه السلام فيكون كذبا جزما، ولولا خوف الملال لأطنبنا في المقال، وفيما ذكرناه كفاية لمن أنصف وطلب الحق.
- ... - ... -
مخ ۸
(لا قيمة لمناقشة المحدثين في السند)
(المطلب الثاني): في بيان أن تضعيفهم للرواية ومناقشتهم في السند لا قيمة لها ولا عبرة بها لأمرين:
(الأول): أن علماء الجرح والتعديل مطعون فيهم عندهم، فلا يصح اعتبار أقوالهم، كما يدل عليه ما في ميزان الاعتدال بترجمة عبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزناد قال: قال ربيعة: ليس بثقة ولا رضي. ثم قال: لا يسمع قول ربيعة فيه، فإنه كان بينهما عداوة ظاهرة.
وفي الميزان أيضا بترجمة الحافظ أبي نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله قال: هو أحد الأعلام صدوق، إتكلم فيه بلا حجة، ولكن هذه عقوبة من الله لكلامه في ابن مندة بهوى. ثم قال: وكلام ابن مندة في أبي نعيم فضيع، لا أحب حكايته. ثم قال: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله!!
وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس. فإن هذه الكلمات ونحوها دالة على أن الطعن للحسد والهوى والعداوة، فاش بينهم وعادة لهم، فلا يجوز الاعتبار بأقوالهم في مقام الجرح والتعديل، حتى مع اختلاف العصر أو عدم ظهور الحسد والعداوة لارتفاع الثقة بهم، وزوال عدالتهم، وصدور الكذب منهم.
وأسخف من ذلك ما في تهذيب التهذيب بترجمة عبد الله بن سعد أبي قدامة السرخسي قال: قال الحاكم: روى عنه محمد بن يحيى ثم ضرب على حديثه، وسبب ذلك أن محمدا دخل عليه فلم يقم له. فإن من هذا فعله، كيف يعتمد عليه في التوثيق والتضعيف، ويجعل عدم روايته عن شخص دليل الضعف؟! وقريب منه ما ذكروه في ترجمة النسائي.
مخ ۹
وأعظم من ذلك ما في تهذيب التهذيب بترجمة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: إن مالكا لم يكتب عنه، قال الساجي: يقال: إنه وعظ مالكا فوجد عليه فلم يرو عنه. فإن من يترك الرواية عن شخص لموعظته له حقيق بأن لا يجعل عدم روايته عن الأشخاص علامة الضعف، وأولى بأن لا يعتمد على توثيقه وتضعيفه.
نعم ذكر في تهذيب التهذيب أيضا عن ابن معين: أن سعدا تكلم في نسب مالك فترك الرواية عنه. فحينئذ يمكن أن يكون بهذا وجه لترك مالك الرواية عنه،وذلك أن مالكا ولد بعد أبيه بثلاث سنين.
وذكر في تهذيب التهذيب بترجمة محمد بن إسحاق صاحب السيرة: أن مالكا قال في حقه: دجال من الدجاجلة، ثم ذكر في الجواب عنه قول محمد بن فليح: نهاني مالك عن شخصين من قريش وقد أكثر عنهما في الموطأ وهما مما يحتج بهما. وحاصله أن قدح مالك لا عبرة به، لأن فعله ينقض قوله.
وإليك جملة من علماء الجرح والتعديل لتنكشف لك الحقيقة تماما، ولنذكر أشهرهم وأعظمهم بيسير من أحوالهم التي تيسر لي فعلا بيانها.
فمنهم: (أحمد بن حنبل) ذكر في تهذيب التهذيب بترجمة علي بن عاصم بن صهيب الواسطي: (( أن أبا خيثمة قال: قلت لابن معين: إن أحمد يقول ليس هو بكذاب. قال: لا والله ما كان عنده قط ثقة، ولا حدث عنه بشيء، فكيف صار اليوم عنده ثقة ))، فإنه صريح في اتهام ابن معين لأحمد وتكذيبه له.
ونقل السيد العلوي الجليل محمد بن عقيل في كتابه (العتب الجميل /102) عن المقبلي في العلم الشامخ : أن أحمد لما تكلم في مسألة خلق القرآن وابتلي بسببها جعلها عدل التوحيد أو زاد، ثم ذكر المقبلي أن أحمد كان يرد رواية كل من خالفه في هذه المسألة تعصبا منه، قال: وفي ذلك خيانة للسند، ثم قال: بل زاد فصار يرد الواقف ويقول: فلان واقفي مشئوم، بل غلا وزاد وقال: لا أحب الرواية عمن أجاب في المحنة كيحيى بن معين.
أقول: صدق المقبلي فإن من سبر تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال رأى ذلك نصب عينه.
مخ ۱۰
ومنهم: (يحيى بن سعيد القطان) ذكر في تهذيب التهذيب بترجمة همام بن يحيى بن دينار: أن أحمد بن حنبل قال: شهد يحيى بن سعيد شهادة في حداثته فلم يعدله همام فنقم عليه.
وفي ميزان الاعتدال: قال أحمد: ما رأيت ابن سعيد أسوأ رأيا منه في حجاج وابن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم ))، وبالضرورة إن تفسيق المسلم والحقد عليه مستمرا لأمر معذور فيه، أعظم ذنب مسقط لفاعله، ومانع من الاعتبار بقوله، في الجرح والتعديل.
ومنهم (يحيى بن معين) ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب، والذهبي في ميزان الاعتدال كلاهما بترجمة ابن معين: أن أبا داود كان يقع فيه، وإن أحمد بن حنبل قال: أكره الكتابة عنه.
وقال ابن حجر أيضا: قال أبو زرعة: لا ينتفع به لأنه يتكلم في الناس، ويروى هذا عن علي بن المديني من وجوه.
وقال أيضا في ترجمة شجاع بن الوليد: قال أحمد بن حنبل: لقي ابن معين شجاعا فقال له: يا كذاب، فقال له: شجاع إن كنت كذابا وإلا فهتكك الله، قال أحمد: أظن أن دعوة الشيخ أدركته.
ونحوه في ميزان الاعتدال أيضا، وقد تقدم تناقض كلامه في قضية أبي الأزهر، فإنه نسبه إلى الكذب، أولا ثم ما برح حتى صدقه، ونسب الكذب إلى ثقات علمائهم.
ومنهم (ابن المديني أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر) فإن أحمد بن حنبل كذبه كما ذكره ابن حجر والذهبي في الكتابين المذكورين بترجمة ابن المديني، وقال ابن حجر: قيل لإبراهيم الحربي: أكان ابن المديني يتهم بالكذب، قال: لا إنما حدث بحديث فيه كلمة ليرضي ابن أبي داود، قيل له: فهل كان يتكلم في أحمد؟ قال: إنما كان إذا رأى في كتبه حديثا عن أحمد قال: اضرب عليه ليرضى ابن أبي داود.
مخ ۱۱
وليت شعري كيف لا يتهم بالكذب وقد زعم أنه زاد في الحديث إرضاء لصاحبه؟! وهل يتصور عدم كلامه في أحمد وقد فعل معه ما هو أشد من الكلام، وهو الضرب على حديثه، وبالضرورة إن من يزيد في الحديث كذبا ويضرب على ما هو معتبر، ويبطل الصحيح المقبول عندهم، طلبا للدنيا ورضا أهلها، لا يؤمن أن يوافق الهوى في توثيق الرجال وتضعيفهم، وإن شئت قلت: إن ضربه على أحاديث أحمد طعن في أحدهما وهو من المطلوب.
ومنهم (الترمذي) ذكر الذهبي في الميزان بترجمة إسماعيل بن رافع: أن جماعة من علمائهم ضعفوا إسماعيل، وجماعة قالوا: متروك. ثم قال: ومن تلبيس الترمذي قال: ضعفه بعض أهل العلم.
وذكر أيضا بترجمة يحيى بن يمان حديثا وقال: حسنه الترمذي مع ضعف ثلاثة فيه، فلا يغتر بتحسين الترمذي، فعند المحاقة غالبها ضعاف.
وقال أيضا بترجمة كثير بن عبد الله المزني: لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي.
ومنهم (الجوزجاني إبراهيم بن يعقوب السعدي) فإنهم ذكروا أنه ناصبي معلن به. ومن المعلوم أن الناصب فاسق منافق، لما سبق في رواية مسلم أن مبغض علي منافق، ولا ريب أن النفاق أعظم الفسق، وقد قال تعالى: { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا }، بل النفاق نوع من الكفر، بل أشده، فلا يقبل قول مثله في الرجال، وشهادته فيهم مردودة، وتوثيقه وتضعيفه غير مسموع.
ومنهم (محمد بن حبان) قال في الميزان بترجمته: قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: غلط الغلط الفاحش في تصرفه، وصدق أبو عمرو، وله أوهام كثيرة. ثم قال: قال أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام: سمعت عبد الصمد بن محمد يقول: سمعت أبي يقول: أنكروا على ابن حبان قوله: النبوة العلم والعمل، وحكموا عليه بالزندقة وهجروه، وكتبوا فيه إلى الخليفة فأمر بقتله. وقال أبو إسماعيل الأنصاري: سألت يحيى بن عمار عنه، فقال: رأيته ونحن أخرجناه من خراسان، كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين.
مخ ۱۲
ومنهم (ابن حزم) وهو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، قال ابن خلكان في ترجمته من وفيات الأعيان: كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه، فنفرت منه القلوب، واستهدف لفقاء وقته، فتمالئوا على بغضه وردوا قوله، واجتمعوا على تضليله وشنعوا عليه... إلى أن قال: وفيه قال العباس بن العريف: لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقان. مضافا إلى أنه كان شبيها بابن تيمية في شدة النصب لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا كان يستشهد بأقواله في نقص أمير المؤمنين عليه السلام وإمام المتقين، كما يعرف شدة نصبه من له إلمام بكتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل).
ومنهم (الذهبي) صاحب كتاب (ميزان الاعتدال) محمد بن أحمد بن عثمان، فإنه كان ناصبيا ظاهر النصب لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بين التعصب على من احتمل فيه ولاء أهل البيت عليهم السلام، كما يشهد به كتابه المذكور، فإنه ما زال يتحامل فيه على كل رواية في فضل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رواتها، وكل من أحس منه حبهم، وقد ذكر هو في تذكرة الحفاظ الحافظ بن خراش وأطراه في الحفظ والمعرفة، ثم وصفه بالتشيع واتهمه بالرواية في مثالب الشيخين، ثم قال مخاطبا له وسابا إياه بما لفظه: (( فأنت زنديق معاند للحق، فلا رضي الله عنك، مات ابن خراش إلى غير رحمة الله سنة ثلاث وثمانين بعد المائتين ))، وما رأيناه قال بعض هذا فيمن سب أمير المؤمنين عليه السلام ومرق عن الدين، بل رأيناه يسدد أمره ويرفع قدره، ويدفع القدح عنه بما تمكن، كما هو ظاهر لمن يرى يسيرا من ميزان الاعتدال، وقد نقل السيد الأجل السيد محمد بن عقيل في كتابه (العتب الجميل /113) عن السبكي تلميذ الذهبي أنه وصف شيخه الذهبي بالنصب ، ونقل أيضا عن المقبلي قوله من قصيدة:
وشاهدي كتب أهل الرفض أجمعهم
والناصبين كأهل الشام كالذهبي
ولنكتف بهذا القدر من ذكر علماء الجرح والتعديل، المطعون فيهم بالنصب واتباع الهوى ونحوهما، فالعجب ممن يستمع لأقوالهم ويصغي لآرائهم، ويجعلهم الحجة بينه وبين الله تعالى في ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله!!!
مخ ۱۳
الأمر الثاني من الأمرين الموجبين لإلغاء مناقشتهم في السند، أن ابن روزبهان قال في آخر مطالب الفضائل متصلا بالمطاعن: اتفق العلماء على أن كل ما في الصحاح الستة سوى التعليقات لو حلف بالطلاق أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو من فعله وتقريره، لم يقع الطلاق ولم يحنث. فإن مقتضى هذا الإجماع أنهم يلغون أقوال علمائهم في تضعيف رجال الصحاح الستة، لا سيما صحيحي البخاري ومسلم، فإنهم جميعا يحتجون بأخبارهما بلا نكير، وبالضرورة أنه لم يرد نص ولم تقم حجة على استثناء رجال صحاحهم، فيلزم إلغاء أقوال علمائهم في الرجال مطلقا، وإلا فالفرق تحكم.
- - -
مخ ۱۴
مناقشة الصحاح الستة
(المطلب الثالث): أن أخبارهم غير صالحة للاستدلاال بها على شيء من مطالبهم، لأن منتقى أخبارهم ما جمعته الصحاح الستة، وهي مشتملة على أنواع من الخلل، ساقطة عن الاعتبار البتة لأمور:
الأمر الأول: أنهم ذكروا في كيفية جمعها وفي جامعيها ما يقضي بوهنها، ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة سويد بن سعيد الهروي: أن إبراهيم بن أبي طالب قال لمسلم: كيف استجزت الرواية عن سويد. قال: ومن أين آتى بنسخة حفص بن ميسرة؟! ومثله في ميزان الاعتدال، فهل ترى أن هذا عذر في الرواية عن الضعفاء؟! وهو يدعي أنه لا يروي في صحيحه إلا عن ثقة، فيكون غارا خائنا، فيسقط كتابه عن الاعتبار.
ونقل الذهبي في الميزان بترجمة أحمد بن عيسى بن حسان المصري: أن أبا زرعة ذكر عنده صحيح مسلم فقال: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئا يتشرفون به. وقال: يروي عن أحمد بن عيسى في الصحيح ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه!! وأشار إلى لسانه.
وذكر ابن حجر بترجمة عمرو بن مرزوق: أن الأزدي قال: كان علي بن المديني صديقا لأبي داود، وكان أبو داود لا يحدث حتى يأمره علي، وكان ابن معين يطري عمرو بن مرزوق ويرفع ذكره، ولا يصنع ذلك بأبي داود لطاعته لعلي. وهذا يدل على أن اعتبارهم للرجال تبع للهوى لا للحق.
وذكر ابن حجر بترجمة أحمد بن صالح المصري: أن الخطيب قال: احتج بأحمد بن صالح جميع الأئمة إلا النسائي فإنه نال منه جفاء في مجلسه، فذلك السبب الذي أفسد الحال بينهما، وقال العقيلي: كان أحمد بن صالح لا يحدث أحدا حتى يسأل عنه، فجاءه النسائي فأبى أن يأذن له فشنع عليه. انتهى ملخصا.
مخ ۱۵
وذكر ابن حجر بترجمة ابن ماجة محمد بن يزيد ابن ماجة: أن في كتابه السنن أحاديث ضعيفة جدا، حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فهو ضعيف غالبا، ووجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد بن علي الحسيني ما لفظه: سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: كل ما انفرد به ابن ماجة ضعيف.
وذكر كل من الذهبي وابن حجر او في كتابيهما المذكورين: أن البخاري احتج بجماعة في صحيحه ضعفهم بنفسه. كما يعلم من تراجمهم في الكتابين، كأيوب بن عائد، وثابت بن محمد العابد، وحصين بن عبد الرحمن السلمي، وحمران بن أبان، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، وكهمس بن المنهال، ومحمد بن يزيد الحزامي، ومقسم بن بجرة، وإنما خصصنا البخاري بهذا لأنه أعظم أرباب الصحاح عندهم، وإلا فكلهم على هذا النمط، بل وجدنا أبا داود كذب نعيم بن حماد الخزاعي، والوليد بن مسلم مولى بني أمية، وهشام بن عمار السلمي، وروى عنهم في سننه، وقال في حق صالح بن بشير: لا يكتب حديثه. وكذا في حق عاصم بن عبيد الله، وروى عنهما، مع أنه كان يزعم أنه لا يروي إلا عن ثقة!! كما ذكره في تهذيب التهذيب بترجمة داود بن أمية، ووجدنا النسائي قال في حق كل من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي، وعبد الرحمن بن أبي المخارق، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف متروك، وروى عنهم في سننه، وكذا الترمذي قال في حق سليمان بن أرقم أبي معاذ البصري، وعاصم بن عمرو بن حفص متروك، وروى عنهما في سننه.
مخ ۱۶
وذكروا في حق البخاري ومسلم اللذين هما أجل أرباب الصحاح عندهم وأصحهم خبرا ما يخالف الإجماع، وهو احتجاجهما بجماعة لا تحصى، مجهولة الحال، لرواية جماعة عنهم بل لرواية الواحد عنهم، مع أن هذا الواحد لم ينص على قدح أو مدح في المروي عنه، ولنذكر بعض من اكتفيا في الاحتجاج بخبره بمجرد رواية الواحد عنه، لتراجع تهذيب التهذيب فترى صدق ما قلناه، فمنهم محمد بن عثمان بن عبد الله بن موهب، ومحمد بن النعمان بن بشير، فإن البخاري ومسلما احتجا بهما ولم يرو عن كل منهما سوى الواحد، ومنهم عطاء أبو الحسن السوائي، وعمير بن إسحاق، ومالك بن جشعم، ومبارك بن سعيد اليماني، ونبهان الجمحي، فإن البخاري أخرج عنهم في صحيحه، ولم يرو عن كل منهم غير الواحد، ومنهم قرفة بن بهيس العبدي، ومحمد بن عبد الله بن أبي رافع الفهمي، ومحمد بن عبد الرحمن بن غنج، ومحمد بن عبد الرحمن مولى بني زهرة، ومحمد بن عمرو اليافعي، ونافع مولى عامر بن سعيد بن أبي وقاص، ووهب بن ربيعة الكوفي، وأبو شعبة المري مولى سويد بن مقرن، فإن مسلما احتج بهم في صحيحه، ولم يرو عن كل منهم غير الواحد، ولا موثق لهم أصلا، وليسوا من أهل زمن الشيخين حتى يقال: إنهما يعرفان وثاقتهم بالاطلاع.
نعم ذكر ابن حبان بعضهم في الثقات كما هي عادته في مجاهيل التابعين فلا عبرة به، مع أنه متأخر الزمان عن البخاري ومسلم، فلا يمكن أن يعتمدوا على توثيقه، وهذا النحو كثير جدا في الصحيحين وبقية صحاحهم، وكم رووا عمن نص على جهالته كما ستعرف أقل القليل منهم قريبا عند ذكر الأسماء.
وقال في ميزان الاعتدال بترجمة حفص بن بعيل بعد ما ذكر قول ابن القطان فيه لا يعرف له حال قال: لم أذكر هذا النوع في كتابي، فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل وأخذ ممن عاصره، ما يدل على علاته، وهذا شيء كثير، ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستوون، ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل. أي: ليسوا بمجاهيل النسب وإن كانوا مجاهيل الأحوال كما قال ابن القطان، وأنت تعلم انه لا يكفي في اعتبار الرجل والاحتجاج بخبره مجرد عدم تضعيف أحد له، بل لا بد من ثبوت وثاقته، وأما حكمه باستوائهم فغير مستو بعد فرض الجهالة بأحوالهم، على أنه غير نافع في الاحتجاج بأخبارهم ما لم تثبت وثاقتهم.
مخ ۱۷
الأمر الثاني: أن جملة من أخبار الصحاح مشتملة على أمور عظيمة، كتجسيم الله سبجانه، وإثبات المكان والانتقال والتغيير له، وكعروض العوارض عليه من الضحك ونحوه، إلى غير ذلك مما يوجب الإمكان، حتى رووا أن الله سبحانه يدخل رجله في نار جهنم فينزوي بعضها لبعض، وتقول: قط قط، ومشتملة على وهن رسل الله ورسالاتهم، حتى أنهم صيروا سيد النبيين جاهلا في أول البعثة بأنه رسول مبعوث، فعلمه النصراني وزوجته خديجة أنه رسول الله، ومشتملة على ما يوجب كذب آي من القرآن وعلى المناكير والخرافات.
الأمر الثالث: أن أكثر رواتهم مدلسون في رواياتهم، ملبسون فيها، ومظهرون خلاف الواقع، كما لو كانت الرواية عن شخص مقبول بواسطة شخص غير مرضي، فيتركون الواسطة ويروونها عن المقبول ابتداء، أو يروونها عن ضعيف ويأتون باللفظ المشترك بين الضعيف والثقة، ليوهم الراوي على القارئ أن المراد الثقة، لأنه يظهر أنه لا يروي إلا عن ثقة، إلى غير ذلك من أنواع التدليس، ولا يكاد يسلم أحد من رواتهم عنه، قال شعبة: ما رأيت من لا يدلس من أصحاب الحديث إلا عمرو بن مرة: وابن عون. كما نقله عنه في ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب بترجمة عمرو بن مرة: الجملي، ويكفيك أن البخاري ومسلما كانا من المدلسين.
قال الذهبي في الميزان بترجمة عبد الله بن صالح بن محمد الجهني المصري: روى عنه البخاري في الصحيح ولكنه يدلسه، فيقول: حدثني عبد الله ولا ينسبه. وبمعناه في تهذيب التهذيب بترجمة عبد الله أيضا. وقد كان البخاري يدلس أيضا في صحيحه محمد بن سعيد المصلوب الكذاب الشهير، لكن الذهبي حمله على الخطأ، قال بترجمة ابن سعيد: أخرجه البخاري في مواضع وظنه جماعة. وهو حمل بعيد، ولو سلم فهو يقتضي عيبا آخر في صحيح البخاري، وسيأتي ذكر هذين الرجلين في الأسماء.
ونقل ابن حجر عن ابن مندة: أنه قال في كلام له: أخرج البخاري قال فلان وقال لنا فلان، وهو تدليس، ثم قال ابن حجر: الذي يظهر لي أنه يقول فيما لم يسمع قال وفيما سمع، لكن لا يكون على شرطه أو موقوفا قال لي أو قال لنا، وقد عرفت ذلك بالاستقراء من صنيعه.
ونقل ابن حجر أيضا عن ابن مندة: أنه قال في حق مسلم: كان يقول فيما لم يسمعه من مشائخه قال: لنا فلان وهو تدليس.
مخ ۱۸
فإذا كان هذا حال الصحيحين وصاحبيهما، وهما بزعمهم أصح الكتب، فكيف حال غيرهما، وكيف تعتبر أخبارهم، وبأي شيء يحصل الأمن لمن يريد الاحتجاج بها؟! والتدليس طريقة شائعة مستمرة بين جميع طبقاتهم، على أنه كذب في نفسه غالبا، والكذب موجب لفسق صاحبه.
قال ابن الجوزي: من دلس كذابا فالإثم له لازم، لأنه آثر أن يؤخذ في الشريعة بقول باطل. كما نقله عنه في ميزان الاعتدال بترجمة محمد بن سعيد المصلوب، والأولى لابن الجوزي أن لا يخصص بالكذاب، لأن الإثم لازم أيضا لمن دلس ضعيفا من غير جهة الكذب، لأن الضعيف مطلقا لا يجوز الاحتجاج به، بل من دلس ثقة عنده كان آثما، لأن الثقة عنده ربما لا يكون ثقة في الواقع وعند السامع وغيره، فكيف يوقعه بالغرور ويدلس عليه ما ليس له الأخذ به؟! وسيمر عليك إن شاء الله تعالى ذكر بعض من عرف بالتدليس عندهم.
الأمر الرابع: أن أكثر رجال السند في أخبار الصحاح الستة مطعون فيهم عندهم بغير التدليس أيضا، من الكذب ونحوه، حتى قال يحيى بن سعيد القطان وهو أكبر علمائهم وأعلمهم بأحوال رجالهم: لو لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة. كما حكى عنه في الميزان بترجمة إسرائيل بن يونس، ولنذكر لك جماعة ممن طعنوا بهم من غير الصحابة، مرتبا أسماءهم على حروف المعجم.
واشترطت على نفسي أن أذكر من رواة الصحاح من طعن به عالمان أو أكثر، وأن يكون الطعن شديدا، كقولهم: كذاب، أو متهم بالكذب، أو متروك، أو هالك، أو لا يكتب حديثه، أو لا شيء، أو ضعيف جدا، أو مجمع على ضعفه، أو نحو ذلك، ولم أذكر من قيل فيه: إنه ضعيف، أو منكر الحديث، أو غير ضابط، أو كثير الخطأ، أو لا يحتج به، أو نحو ذلك، وأن أسقط روايته عن الحجية طلبا للاختصار، ولكفاية من جمع الشروط المذكورة في الدلالة على سقم الصحاح.
مخ ۱۹
وربما ذكرت بعض المجاهيل والمدلسين وبعض النصاب، لتعرف اشتمال الصحاح على أنواع الوهن، ولا يخفى أن النصب أعظم العيوب، لأن الناصب منافق كما عرفت، والمنافق كافر بل أشد منه، لأنه يسر الكفر ويظهر الإيمان، فيكون أضر على الإسلام من الكافر الصريح، وقد ذم الله المنافقين وأعد لهم الدرك الأسفل من النار، كما أخبر به في كتابه العزيز، ولعنهم في عدة مواطن من الكتاب، وكذلك لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما لا يحصى من المواطن، ومن المعلوم أن الكافر لا تقبل روايته أصلا في الأحكام وغيرها حتى لو وثقه جماعة.
وقد أخذت ما ذكرته هنا في أحوالهم من ميزان الاعتدال للذهبي وجعلت رمزه (ن)، ومن تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني وجعلت رمزه (يب)، فإن اتفقا على نقل ما قيل في صاحب الترجمة ذكرته بعد اسمه بلا نسبة لأحدهما، وإن اختص أحدهما بالنقل ذكرته بعد رمز الناقل منهما، على أن يكون كل ما بعد رمزه من خواصه في النقل إلى أن تنتهي الترجمة أو أنقل عن الآخر.
كما أني رمزت إلى أهل الصحاح برموزهم المتداولة عندهم، فللبخاري (خ)، ولمسلم (م)، وللنسائي (س)، ولأبي داود (د)، وللترمذي (ت)، ولابن ماجة القزويني (ق)، ولهم جميعا (ع)، ولمن عدى مسلم والبخاري (4)، وقد جعلت قبل اسم صاحب الترجمة رمز الراوي عنه من أهل هذه الصحاح متبعا تهذيب التهذيب، إلا قليلا فإني قد أعول على الميزان في الرمز، هذا وربما كان لي كلام أو نقل عن غير هذين الكتابين أذكره بعد قولي (أقول)، فنقول وبالله المستعان:
حرف الألف
ت د ق (إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة) قال ابن معين: ليس بشيء. (يب): قال الدراقطني متروك. وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل.
ت ق (إبراهيم بن عثمان أبو شيبة العبسي الكوفي) قاضي واسط كذبه شعبة، وقال (س) متروك الحديث. (يب) قال أبو حاتم: تركوا حديثه. وقال الجوزجاني: ساقط، وقال صالح جزرة: لا يكتب حديثه.
ت ق (إبراهيم بن الفضل المخزومي) قال ابن معين: ليس بشيء. (ن) قال ابن معين أيضا: لا يكتب حديثه. وقال (س) وجماعة: متروك. (يب) قال (س): لا يكتب حديثه. وقال الدارقطني والأزدي: متروك.
مخ ۲۰