وأشرقت الدنيا من حولها لهذا الخاطر، وتلفتت حولها تنظر إلى الناس باستخفاف وهم يهرولون لاهثين وراء الأتوبيسات ويقذفون بأنفسهم داخلها أو خارجها كالعميان، لماذا يجري هؤلاء الجهلة؟ هل يعرف أي واحد فيهم كيف نام ليلة أمس؟ هل يعلم كل واحد منهم لو سقط تحت العجلات ومات، أو أن الأتوبيس كله انقلب به وبكل من فيه وغرق في النيل، هل يعلم أن ذلك لا يعني شيئا للعالم؟
ورأت أتوبيسا يقف أمامها، وكان فيه بعض مقاعد خالية، فقفزت فيه بسرعة وجلست بجوار رجل عجوز، كان الرجل يمسك بأصابعه المرتجفة سبحة صفراء ويتمتم بصوت هامس: يا حفيظ! يا حفيظ! احفظنا يا رب! احفظنا يا رب! كان يطل من خلال زجاج النافذة ويتطلع إلى السماء من حين إلى حين بعينين متآكلتين لا رموش لهما، وتصورت فؤادة أن الرجل قد أصيب توا بكارثة؛ فابتسمت له في رقة لتواسيه، لكنه ذعر وانكمش في كرسيه مبتعدا وألصق جسمه الناحل بالنافذة، وقالت لنفسها وهي تنظر إلى الناحية الأخرى: يا للذعر الذي يملأ العالم!
في الناحية الأخرى كانت امرأة شابة تقف إلى جوارها، وقد أصبح الأتوبيس مزدحما بالواقفين كالعادة، كان يفوح من المرأة رائحة عطر، وفوق وجهها تلك الطبقة المعهودة من البودرة، وفوق شفتيها ذلك الطلاء الأحمر القاني، كانت نحيلة الجسم وقصيرة حتى إن بطنها كان ترتطم بكتف فؤادة وهي جالسة، لكن ردفيها كانا سمينين وبارزين خلفها.
ونهضت فؤادة فجأة بغير داع، فاندفعت المرأة في مقعدها وجلست مكانها تنفخ من الغيظ، وشقت لنفسها طريقا بين الأجسام ثم قذفت بنفسها من الأتوبيس قبل أن يتحرك من المحطة، وارتطمت قدماها بالأرض وكادت تقع لكنها استطاعت أن تنتصب واقفة، ورفعت رأسها لترى أين هي، ووجدت نفسها أمام سور الوزارة الصدئ.
وكأنما سقط فوق رأسها كوز ماء بارد فأفاقت، وتذكرت أنها لم تكن تنوي المجيء إلى الوزارة، لكن قدميها حملتاها بغير وعي في الطريق اليومي المعتاد، كحمار يفتحون أمامه باب الزريبة فيخرج وحده إلى الحقل، خروجا غير إرادي، ولأنه غير إرادي فهو طبيعي جدا، كخروج طفل من بطن أمه.
ورفعت عينيها إلى المبنى الكالح فرأته بارزا في الفناء ومفلطحا كبطن أمها، تنتشر فوق سطحه الأسمر القاتم شقوق طولية وعرضية كتجاعيد الجلد، وبدأت تشم الرائحة الغريبة، كتلك التي تشمها في أقسام الولادات بالمستشفيات، أو في دورات المياه النتنة، وتعثرت في خطواتها وبدأ الغثيان يشتد فقد عرفت أنها تقترب من مكتبها. •••
كان مدير القسم غاضبا، يتكلم بصوت عال تناثر له لعابه كالشظايا الشفافة الصغيرة، طارت واحدة منها واستقرت فوق خدها، تركتها في مكانها ولم تمسحها بمنديلها نفاقا له، وسمعته يقول: انصرفت من مكتبك أمس قبل الموعد الرسمي المحدد بثلاث ساعات ونصف! وصفعت كلمة أمس أذنها، فقالت بنصف وعي: أمس! وانقلبت شفتا المدير الغليظتان إلى الخارج وهز صلعته اللامعة وهو يصيح: نعم أمس ... هل نسيت؟ وقالت كأنما تكلم نفسها: لم أنس، ولكني كنت أظن أن ذلك حدث ... (وابتلعت بقية الكلمات دون أن يسمعها أحد) منذ أسبوع أو أسبوعين.
وراح المدير يتكلم بصوت عال، لكنها لم تكن تسمع، كانت تفكر باندهاش في الطريقة التي يعيش بها الناس الزمن، وكيف لا يتفق الإحساس بالزمن أحيانا مع عدد الساعات أو الدقائق التي مرت، وهل يمكن أن تكون تلك الحركة الثابتة المتتابعة لعقربي الساعة داخل تلك الدائرة الضيقة المحدودة مقياسا حقيقيا للزمن؟ فكيف يمكن إذن أن يقاس شيء غير مرئي وغير محدود بشيء مرئي محدود؟ وكيف نقيس شيئا لا نراه ولا نحسه ولا نلمسه ولا نذوقه ولا نشمه ولا نسمعه؟ كيف يمكن أن نقيس شيئا غير موجود بشيء موجود؟
وخطرت ببالها فكرة ظنت أنها لم تخطر ببال أحد، وأحست بفرحة سرية أخفت معالمها عن مدير القسم، ولم تعرف لماذا أو كيف فتحت فمها، فجأة ، وقالت لمدير القسم بصوت مسموع: إنني أعمل في قسم الأبحاث منذ ست سنوات، وأعتقد أن من حقي أن أقوم ببحث منذ اليوم.
وكأنما تفوهت بلفظ جارح أو كلمة نابية فامتقعت صلعته باللون الأحمر وبدا شكله وهو جالس وراء المكتب كقرد يجلس فوق رأسه ويرفع مؤخرته في الهواء.
ناپیژندل شوی مخ