ومرت سنوات ست على محمود حتى أظلته سنة 1807م وهو هانئ سعيد بزوجته وقد زاد بها تعلقا وزادت به حبا، وفي خلال هذه السنوات اضطربت الأحوال بمصر، واشتد الصراع بين الترك والمماليك، وشايع زعماء المصريين محمد علي باشا، فاختارته الأمة واليا على مصر، وتجرد لمحاربة المماليك واستئصال شأفتهم.
وفي ذات ليلة بينما كان محمود ولورا يزوران نيكلسون، دخل حسين العسال ابن عم محمود، وقال وهو يلهث من التعب: لقد بحثت عنك يا محمود في كل مكان، جئت اليوم من الإسكندرية وهي في أشد أحوال الكرب والاضطراب، فقد نزل بها بالأمس جيش إنجليزي واحتل المدينة، والناس في حال يرثى لها؛ لأنهم لم يكادوا يفيقون من صدمات الفرنسيين، حتى سقطوا في أيدي الإنجليز، وقد علمت من الشيخ المسيري أن قائد هذه الحملة يدعى: فريزر، فبهت محمود وقال في ذهول: جيش إنجليزي؟ - نعم، فإني أعرف الراية الإنجليزية، وأميز ملامح الإنجليز من أي جنس آخر. فقال محمود: ولماذا قدموا يا ترى؟ فأجاب نيكلسون وقد أدرك حرج موقفه: إنهم لم يجيئوا لامتلاك البلاد، والذي أعلمه أن الدولة العثمانية حالفت نابليون، وقطعت صلاتها بإنجلترا، فخاف الإنجليز أن يستغل الفرنسيون صداقتهم الجديدة للترك فيعودوا إلى احتلال مصر ، فجاءوا لدرء الخطر الفرنسي عن مصر، وربما كان مجيئهم استجابة لدعوة من المماليك. فقال محمود ساهما: هذا كلام حسن يا صاحبي، وأرجو أن يكون الأمر كما تقول.
فقال نيكلسون: هذا هو الذي أظن.
وبعد أيام كانت رشيد في قلق واضطراب، فقد شهد الناس من مئذنة مسجد زغلول جيشا مقبلا على المدينة، ولم يكن برشيد من العدة وآلات القتال ما تستطيع أن تدرأ به جيشا غازيا، ولم يكن لها من الأسوار إلا أطلال عصفت بها الرياح والأنواء، وما كانت إلا ساعة من نهار، حتى دخل الإنجليز المدينة بغير قتال، فثار السكان وغضبوا، وقام الخطباء يستحثون العامة على الدفاع، وكان محمود العسال في حيرة بين واجبه وحبه، فما كان يصح في عقله أن يقتحم المغيرون مدينته وهو واقف مكتوف اليدين، ولكن لورا؟ أيحارب قومها؟ لقد كاد قلبه لشدة شغفه بها يتسع لحب الإنجليز جميعهم.
جلس حزينا مفكرا، وأصوات الناس وعجيجهم تملأ أذنيه، وهم مسرعون للقتال، فدخلت عليه لورا وقالت: في أي شيء تفكر يا محمود؟ - أنا في حيرة يا حبيبتي. - وفيم الحيرة؟ - أنا في حيرة بينك وبين وطني. - بيني وبين وطنك؟ إن قومي بخير يا محمود، وإن قومي يمجدون الشهامة كيفما كانت، حتى إنهم يمجدونها في أعدائهم. وإنني لم أحبك إلا لبطولتك وإقدامك وغيرتك على بلادك، فإذا تخليت عن هذه الصفات لأجلي فقد تخليت عن حبي، إن زوجي محمودا الذي أحببته فوق كل حب، وملأت به قلبي غراما، وفمي إعجابا وفخرا، لن يجلس في داره كما تجلس العجائز وطلقات رصاص الفاتحين تصم المسامع، إنه إن رضي بهذا فإن زوجته لورا لن ترضى، وماذا يقول الناس، وبم يهمسون؟ سيقولون: لقد كان محمود محمودا قبل أن يتزوج، لقد كان بطلا يلاقي الموت جريئا بساما، فلما فتنته الإنجليزية سلبته كل صفات الرجولة، فأصبح فسلا رعديدا خائر العزم قليل الغناء، أتحب أن يقول الناس هذا عني وعنك؟ ثم قهقهت وقالت: لا يا زوجي الباسل أنا أعرف أن شيئا في الأرض أو في السماء لن يحول بينك وبين الذود عن وطنك، ولو كان ذلك الشيء حبي، ولكنك تجاملني يا محمود، تجامل زوجتك التي ليس لها سواك، والتي تحب فيك الهمة ومضاء العزيمة. - نعم أجاملك يا لورا، ولكني لم لو أنل رضاك لسرت إلى القتال مشتت القلب مثقلا بالهموم. - لا يا حبيبي على بركة الله مجمع القلب باسم الوجه، وعد إلى زوجتك الوالهة مظفرا منصورا.
فوثب إليها يقبلها وتقبله في شغف وحنان، وقد امتزجت الدموع بالدموع، وتلاقت الزفرات بالزفرات، ثم اختطف بندقيته وقفز إلى باب الدار ليلحق بالجموع الزاخرة التي شمرت للدفاع عن المدينة.
وكان الحشد عجيبا حقا: اجتمع فيه الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وكانت العصي والحجارة أكثر ما يزهى به هذا الجيش من عدد القتال، فتقدم محمود الجمع، ودعا إلى الهجوم بين تهليل المهللين وتكبير المكبرين، وكان القتال في الحارات والبيوت، واستمرت المعركة ساعات سقط فيها عدد غير قليل من الجانبين، ولما احتدم القتال ولاح النصر في جانب أهل المدينة، ورأى محمود رابية لا تزال تتحصن بها ثلة من الجنود، فدعا بعض الفتيان إلى محاصرتهم، ولكنه لم يكد يتقدم منهم قليلا حتى رماه أحد برصاصة اخترقت صدره فسقط على الأرض صريعا.
وهنا ثار السكان ووثبوا وثبة رجل واحد، فتراجع الغزاة وغادروا المدينة، وعاد الجموع يحملون جثة محمود بين البكاء والعويل، حتى وصلوا إلى بيته، فهرعت لورا المسكينة إلى زوجها المقتول نادبة باكية، ورمت بنفسها عليه تعانقه وتقبله، وتخاطبه كأنما هو حي مدرك، بألفاظ تقطع نياط القلوب، وعبارات تستنزف ماء العيون، حتى إذا حاول أبوها وحسين العسال أن يواريا عنها الجثة، صاحت بهما غاضبة صاخبة: اذهبا إلى شأنكما، ودعاني أقبله فإن الحب لا يعرفه إلا من يكابده، ودعاني أحدثه فإنه يأنس لحديثي ويطرب لنبرات صوتي، ثم انكبت عليه ثانية، وهي تقول: محمود يا حبيبي: أحقا عدت منصورا وجئت إلى زوجتك الحبيبة تطلب أجر بطولتك؟ هذه قبلة، وهذه قبلة أخرى، أهذا يكفيك يا نور عيني؟ لا يكفي؟! أنت ولد طماع جشع! خبرني بالله ماذا فعلت؟ تقدمت الصفوف كميا شجاعا ، وسخرت من الموت جريئا تياها، وذكرت زوجتك الغالية فوثبت غير هياب لتحظى بحبها وإعجابها؟ لم يبق لي حب أدخره يا محمود، لقد أخذته كله، ولم أترك في نفسي إعجابا إلا توجت رأسك به، إنك لم تمت يا محمود، قل إنك لم تمت!! هؤلاء المساكين الذين حملوك إلي، يظنون أنك ميت لا ترجى!! كذبهم يا محمود، وقل لهم: إنك حي، وإن مثلك لن يموت.
ثم حمل البطل إلى الدار، وبقيت لورا طول الليل إلى جانبه تحادثه وتقبله، حتى خاف أبوها عليها الجنون، فأخذ يهدئ من نفسها، ويذكرها بما يجب من التسليم لأحكام الله، ويدعوها إلى الجلد والصبر، فسكنت بعض السكون، واستسلمت إلى البكاء، وفي البكاء شفاء المحزونين.
وفي الصباح هرع الناس للاحتفال للجنازة، وأخذ المؤذنون فوق المآذن يشيدون ببطولة الراحل ويمجدونه، ويستمطرون عليه الرحمات، وازدحم مسجد المحلي بالجموع التي أقبلت للصلاة عليه واجمة حزينة؛ ووقف الحاج عبد الله البربير، فأنشد قصيدة في رثائه، بكى فيها وأبكى الناس، كان من أبياتها:
ناپیژندل شوی مخ