ووثب «عطية البحطيطي» وهو قراد المدينة ومضحكها إلى عثمان خجا فاتحا ذراعيه وهو يقول: أين كنت يا حبيب عيني، وأنيس وحدتي، وباب رزقي؟ لقد حزنا عليك طويلا حين غبت عنا، واستوحش إخوانك القرود لبعدك الطويل، أين كنت يا جلجل؟ أين كنت يا يدي ورجلي؟ فهم الجنود بطرده، ولكنه صاح في غضب مصنوع: إنه قردي جلجل الذي فر مني، فساءت حالي، وكسدت صناعتي، إنه قرد نجيب جدا، يكفيه الإيماء ليقوم بأحسن الألاعيب، الحمد لله على السلامة يا جلجل! ثم جذبه إليه ووضع في عنقه حبلا وهوى فوق رأسه بالسوط، وأخذ يحمله بالضرب العنيف على القيام بألعاب القرود.
ثم سار الموكب حتى وصل إلى شارع دهليز الملك، وهناك رأى عثمان خجا أمام بيته مشنقة أعدت للقائه، فجر إليها جرا، ووضع الحبل في رقبته، وكانت رابحة العرافة قريبة منه، فلما شد الجلاد الحبل صاحت: الله أكبر! لقد صدقت كهانتي، ومات اللعين بين الأرض والسماء!
وفي مساء ذلك اليوم اجتمع فريق من الأعيان والعلماء بمنزل الحاج أحمد شهاب، وتذاكروا حوادث النهار، فقال الشيخ صديق: كنت أود أن يكون القصاص من عثمان خجا مطابقا للشرع الشريف، فقال السيد أحمد بدوي: إن المجلس يا سيدي سمع شهادة الشهود وكانوا كلهم إجماعا على أنه كان سفاكا غاشما، على أن رجال المجلس يعرفون من ظلم عثمان خجا وفتكه بالأموال أكثر مما يعرف الشهود. - إن الشرع يشترط في مثل هذه الوقائع أن تقام الدعوى من أولياء المقتول، فهل أقيمت؟ ويشترط أن يكون المدعى عليه حاضرا بمجلس القاضي ليرد الدعوى إن استطاع، فهل كان عثمان خجا حاضرا؟ أنا لا أقول: إنه لا يستحق القتل، فقد كان شيطانا مريدا، ولكني أرى أنه لا يصح أن يحكم القاضي على رجل بالقتل؛ لأنه يعلم أنه يستحق القتل، فإن من الأصول الثابتة أن القاضي لا يقضي بعلمه، هذه ناحية الشرع، فإذا اتجهنا إلى ناحية الأخلاق كانت الطامة أعظم، والمصيبة أفدح، أليس هذا الرجل هو عثمان خجا حاكم رشيد الذي كنا نحن العلماء وأعيان البلد نتملقه، ونزين له أعماله، ونقبل يديه، والدماء تقطر منهما؟ أئذا تنكر له الدهر فلوى عنه وجهه، اجتمعنا في مجلس الشرع الشريف ننبش قبور ماضيه، ونحاسبه على ما كان قد اقترف من سيئات؟ ولو كان اجتماعنا بوازع من أنفسنا، وغيرة صادقة على الحق والدين، لكان لنا بعض العذر، فقد يقول الناس: إنهم حينما قدروا فعلوا، ولكن المؤلم حقا، والمثير للشجن حقا، إننا لم نجتمع إلا بإيعاز من الفرنسيين، وأخشى أن أقول: إننا لم نحكم بالقتل إلا لإرضاء الفرنسيين، فقال الحاج أحمد شهاب: ليس من شك في أنه يستحق القتل يا مولانا. - أنا لا أجادل في هذا! ولكني أنظر إلى ناحيتين لو حافظ المسلمون عليهما لبقي الإسلام عزيزا كما كان، هما: الدين والأخلاق، أليس كذلك يا مولانا الخضري؟
فبهت الشيخ، واصفر وجهه؛ لأنه كان يستمع لكلام الشيخ صديق واجما، فقد كان شيخ المجلس الذي أصدر حكم القتل، ولكنه بعد أن تردد قال: القضاء يا سيدي الشيخ في هذه الأيام ابتلاء، وإننا نعمل في هذا العصر الأنكد بمذهب من يجيز التقية، فنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم.
وحينئذ رأى الشيخ البربير الشاعر بلباقته أن يوجه الحديث إلى مجرى آخر فقال: اسمعوا ما قلته اليوم فلعل فيه شيئا من السلوى، فنشط إليه الجماعة، وكانوا ملوا الحديث في الأخلاق والدين وقالوا: قل، فقال:
قالوا هوى رأس عثمان فقلت لهم
نفستم الكرب عنا بعض تنفيس
مضى بنو الترك فارتاحت سرائرنا
فهل رحيل قريب للفرنسيس؟
فضحك القوم وتسارع بعض الشبان إلى كتابة البيتين، فأشار إليهم بيده وقال اكتبوا أيضا:
ناپیژندل شوی مخ