فقال الشيخ البراوي: لا بد أن يسرع إلى القاهرة، وإذا كان بالقاهرة رجال حقا يحبون دينهم ووطنهم، فإنه لن يبقى بها يوما أو بعض يوم.
فتهللت وجوه الحاضرين: وصاحوا: نحن معك يا شيخ إسماعيل، ولا بد من استئصال شأفة هؤلاء الغزاة.
وهنا أسرع نيكلسون ليبلغ لورا الخبر السار، وبعد أيام قدم نابليون من الغزو، فبهت حين ألقي إليه خبر دمار الأسطول، ثم عاد إلى جلده واستخفافه بالشدائد، وأراد أن يهون الكارثة على الجنود، فخطب في قواده خطبة حماسية جاء فيها: «إذا قضي علينا أن ننشئ مملكة في الشرق، فلننشئها أشداء فاتحين، وإذا فصلت البحار بيننا وبين بلادنا، فإنه ليس ثمة بحار بيننا وبين إفريقية وآسية، ولا نزال في عدد وعدة، وفي استطاعتنا أن نتخذ من أبناء هذه البلاد جنودا أقوياء، وفي استطاعة «شامبي» و«كونتيه» أن يمدانا بما شئنا من ذخائر وعدة، فلنكن عظماء، ولنعمل العظائم، ولنرفع رءوسنا، ولنصعد فوق الموجة، ولنهزأ بالزعازع، فقد يكون القدر قد كتب لنا أن نغير صحيفة الشرق، وأن نضم أسماءنا إلى أسماء عظماء الرجال الذين خلد التاريخ ذكراهم»، ثم أراد أن يظهر أمام المصريين بمظهر القوي الذي لا تنال منه الخطوب، فاحتفل بفتح الخليج احتفالا باهرا، ثم بالمولد النبوي، ثم بعيد الجمهورية الفرنسية.
الفصل السادس
وصلت السفينة إلى شاطئ بولاق مقلة زبيدة وأخاها عليا الحمامي، ولم تمض ساعة حتى بلغا بيت السيد أحمد المحروقي، بالقرب من الفحامين، وكان المحروقي في ذلك الحين رئيس التجار، وكان عظيم الثروة والجاه، سخي الكف نهاضا بالأعباء، عالي الهمة، ذكي الفؤاد واسع الحيلة، ولما دخل الفرنسيون القاهرة فر مع إبراهيم بك، ولكنه عاد إليها واستطاع بدهائه وماله أن يجتذب إليه قلوب الفاتحين، وأن يستعبدهم بإحسانه وإغداقه.
مدت أمينة خالة زبيدة إليها ذراعيها في شوق وشغف، فطوقتها بهما وهي تقول: أهلا بزهرة رشيد الناضرة، التي لم تتحل بمثلها بساتين القاهرة، إن نسيم البحر الأبيض إذا تزاوج بنسيم النيل الهفاف، ولدا ذلك الجمال البارع الذي يتحدى ريشة كل رسام، فضحك السيد أحمد المحروقي وقال عابثا : إنها يا زبيدة امرأة لعوب فاحذريها، إنها تتخذ منك وسيلة لإطراء نفسها، والمباهاة بحسنها، ألم تري أنها بحركة لولبية سريعة حصرت الجمال كله في رشيد؟ فابتسمت أمينة ابتسامة خفيفة ونظرت في المرآة بحركة لا تحس، وقالت: هذا دأبك دائما، تسيء التأويل، وتوجه الكلام إلى غير وجهه، وهل لامرأة عجوز مثلي في السابعة والثلاثين - ثم لمحت المرآة ثانية - أن تتحدث عن جمالها؟ ولكني أعتقد أن رشيد وهي ميناء أقطار الشرق والغرب، توافد عليها النزلاء من كل صوب: بين تركي وجركسي وشامي ومغربي، وامتزجوا بأهلها وأصهروا فيهم، فأخرجوا نسلا قويا جميلا، إن السلالات البشرية تضعف وتتضاءل إذا لم تختلط بها العناصر والأجناس، وشتان بين الوردة يتيمة منعزلة، والوردة في طاقة تجمع فواتن الورود والأزهار! - دعينا من هذه الفلسفة أيتها العجوز الفاتنة، وحدثينا يا زبيدة عن رشيد وأحوالها، فقاطعته زوجه متعجلة واتجهت إلى زبيدة: لقد هدت رسالة أمك قواي حين قالت: إنك مريضة. ولكني لا أرى للمرض عليك أثرا، فما حقيقة الأمر؟ - لقد كنت مريضة أشد المرض، ولكن الطبيب «شوفور» وصف لي علاجا وأشار علي بالرحلة إلى القاهرة، فما كدت أقضي بالسفينة أياما حتى أحسست دبيب العافية. - حماك الله من كل مكروه يا حبيبتي، وكيف حال أمك وأبيك؟ - أما أمي فبخير، وأما أبي فإنه كثير الوجوم والحزن منذ دخول الفرنسيين.
وهنا قال المحروقي: أظنهم لا يظفرون بحب أهل رشيد. - لا أدري، لقد كنت مريضة عند دخولهم، وأظن أنهم لا يبلغون في الظلم مبلغ المماليك، وهنا دخل ابن خالتها محمد المحروقي، وكان فتى وسيما في التاسعة عشرة من عمره، فحيا زبيدة وجلس وهو يلقي إليها نظرات طويلة، فيها ذهول وفيها إعجاب، وفيها نهم الشباب، والتفتت أمينة إلى الفتى، ثم همست في أذن زوجها فهز رأسه وقال: نعم الفكرة نرجو الله أن يهيئ لنا الخير. ثم التفت إلى ابنه وقال: هلم يا بني، فقد آن أن نراجع دفاتر حساب اليوم.
وانفردت أمينة ببنت أختها كالمشغوفة الوالهة؛ لأنها أثارت في نفسها ذكريات عزيزة عندها، أثيرة لديها ، فقد شاهدت في زبيدة صورة شبابها الغض، الذي كان فتنة العيون، وشرك القلوب، وعادت بخيالها إلى الماضي منذ أكثر من عشرين عاما، فرأت نفسها في بيت أبيها بشارع البحر برشيد، وهي تنظر إلى النيل من خلال مشربية أدق الصانع صنعها، وكان النهار قد أخذ يولي؛ لأن شمس الأصيل ألقت بشعاعها على زجاج المنازل ذهبيا هادئ الوميض، ثم ترى نفسها وهي تتجه بعينيها إلى اليسار فترى أباها في طلاقته وبشاشته وجميل زيه، يحادث رجلا غريبا قد يكون تخطى الثلاثين، تظهر عليه دلائل النعمة والجاه، وهو إلى ذلك جميل القسمات حلو اللفتات، يصغي إلى الحديث ويبتسم، وربما زاد بين الكلام كلمة أو كلمتين، ليدل على العناية وحسن الإضغاء، ثم تتخيل نفسها وقد أسرعت دقات قلبها، ودبت في جسمها نشوة عجيبة لم تعرف لها كنها، ولم تدر لها تأويلا، وشعرت بحافز عنيف لا تستطيع صده، يدفعها إلى إطالة النظر إلى هذا الرجل الغريب وملء عينيها منه، فتنظر ثانية فترى أباها وقد دخل به إلى الدار، وتسمع حركة الخدم والجواري التي اعتادت أن تسمعها كلما زارهم ضيف عظيم، ثم ترى «زهرة» الجارية وهي تدخل على سيدتها لاهثة، بعد أن قطعت السلم وثبا وهي تقول: لقد بعث سيدي يخبرك بأن ضيفه الليلة السيد أحمد المحروقي أكبر تجار القاهرة وأعظمهم جاها، فيجب ألا يدخر جهد في أن يكون العشاء لائقا بمثله ومثل سيدي، ثم ترى الدار بمن فيها وقد نهضت نهضة واحدة لإعداد العشاء، وتستمر أمينة في هذه الذكريات ساهمة تقلب صفحة من كتاب خيالها وتنظر في أخرى، فتتراءى لها تلك الليلة التي باتت فيها على سريرها، وهي تفكر في الضيف، وتدهش لم تطيل فيه تفكيرها، وتحاول أن تختار من ماضيها صورة تمحو بها صورته، فإذا بها تعود إليه قوية شديدة، فتمحوا ما جهدت في تذكره من صور، ثم تنظر في صفحة ثالثة، فيتجلى لها ذلك الصباح المشرق الذي زاده انعكاس أشعته على النيل بريقا ولألاء، وقد دخلت عليها أمها باسمة مشرقة الوجه كالصباح، وهي تقول : مبارك يا أمينة ، لا تنسي أن تقرئي لنا الفاتحة في السيدة زينب، ثم تتخيل ما أصابها من الوجوم والذهول، وتذكر ما كان يهمس به قلبها وهي تبكي أمام أمها حين قالت لها: لقد عرفت كل شيء من النظرة الأولى أيتها الماكرة المتجاهلة، إنه الحب ... إنه الحب ... إن للحب إلهاما لا يكذب فلم توارين؟ ابكي كما شئت أمام أمك، فهذا دأبكن يا بنات حواء، تتخذن من البكاء لغة مبهمة لكل ما يجول في نفوسكن حتى لا تفهمن، وحتى تبقين سرا في البشرية غامضا.
تخيلت أمينة كل هذه الصور في ثوان، ثم اتجهت إلى زبيدة وقالت: علمت من أمك أن محمودا العسال يلح في زواجك وأنك تأبين، إن محمودا شاب تطمح إليه عيون الفتيات، ولكن للقلوب أسرارا لا تدرك، ولهواها سرائر لا تعلم، ولعل لك آمالا تسمو بك عن رشيد وأهلها، ولعلك تودين أن تكوني بالقاهرة كخالتك، جليسة نساء الأمراء والكبراء وأرباب الدولة، إنني أرحب بك يا زبيدة في هذه الدار سيدة مسيطرة، وأقصى أماني أن أراك زوجا لابني محمد، وهو شاب كريم الخلق، رفيع المنزلة، يمهد له أبوه السبيل من بعده، ويمد له أسباب الشهرة مدا، ألا تحبين أن أكون أما لك ثانية؟! إن شمسك في رشيد لا يتسع لها الأفق، أما هنا فستنفذ أشعتها بعيدة وضاءة، وسيتحدث كل بيت من بيوت الأمراء والأعيان، وكبار الفرنسيين أنفسهم عن زبيدة وجمال زبيدة.
أطرقت زبيدة وطال إطراقها، وجال بخاطرها سريعا أن العرض مقبول، وأن زواجها بابن المحروقي سيكون من ورائه الثروة والشهرة، والجاه العظيم ما في ذلك شك. ولكن أين هو من محمود العسال كيفما أطنبوا في وسامته وكريم خلقه؟! لا شيء. إن في محمود تلك الرجولة الخشنة التي تشتهيها كل فتاة، لتكمل بها ما في أنوثتها الناعمة من نقص، لا ... شتان ما بين الرجلين! ثم ما لها ولمحمود وغير محمود، إن للعرافة نبوءة يجب أن تتحقق، وهي واقعة لا محالة إذا أطالت لها عنان الصبر، فرفعت رأسها إلى خالتها وقالت: يجب يا خالتي أن ننسى الحديث في الزواج الآن، حتى تزول تلك الغمة التي أطبقت على مصر، وحتى نرى آخر سفينة وهي تحمل الفرنسيين إلى بلادهم، إن زواجي بابن خالتي شرف لا يناله مثلي، ولكن الزواج الآن أشبه بالضحك في المآتم، والرقص في بيت يحترق، فنظرت إليها أمينة نظرة الخبيرة الطبة بالنساء وخداعهن، ثم تنهدت وقالت: كثيرا ما يرغب الإنسان عن الثمرة الدانية ويأبى إلا أن يتسلق لغيرها! ومن يدري؟ ثم ضحكت وقالت: تعالي أيتها الفتاة المقدرة المدبرة فقد أعد الطعام.
ناپیژندل شوی مخ