فدخل رجل عليه علامات السفر وبيده كتاب، فسلم ودفع الكتاب إلى يزيد، فتناوله وفضه فإذا هو من عبد الله بن مسلم أحد أنصار بني أمية في الكوفة، فقرأه وإذا فيه بعد البسملة:
إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، من عبد الله بن مسلم. أما بعد: اعلم يا أمير المؤمنين أن الناس في الكوفة والبصرة قد ضعف أمرهم بضعف أميرهم النعمان بن بشير؛ فقد وليته الكوفة وهو رجل ضعيف، أو هو يتضاعف، حتى كاد الأمر أن يفضي إلى أعدائنا. فإذا كان لك حاجة إلى الكوفة فأرسل إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، وتفصيل الخبر أن أهل الكوفة لما بلغتهم وفاة معاوية رحمه الله، وامتناع الحسين وعبد الله بن الزبير عن البيعة، أرجفوا بأمير المؤمنين واجتمعت شيعة علي في منزل أحد كبارهم، فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه كتابا قالوا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، سلام عليك، فإننا نحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: الحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي اجترأ على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيأها وتأمر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» وسيروا هذا الكتاب إلى الحسين في مكة، وبعثوا إليه كتبا أخرى في مثل ذلك، وكان جملة ما أرسل من هذه الكتب نحوا من مائة وخمسين صحيفة، وأرسلوا إليه رسلا عديدين فجاءهم من الحسين كتاب قال فيه: «أما بعد : فقد فهمت كل الذي قصصتم، وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه اجتمع رأي ملتكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والقائم بالقسط، والدائن بدين الحق. والسلام.»
وقد حدث مثل ذلك يا أمير المؤمنين في البصرة أيضا، وقد جاء مسلم إلى الكوفة بعد أن قاسى في طريقه عذابا عظيما من العطش، ونزل بدار أحد شيعة الحسين، وصار الناس يختلفون إليه وهو يقرأ عليهم كتب الحسين فيبكون ويعدونه بالقتال معه، فلما بلغ النعمان بن بشير صعد المنبر وقال: «أما بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال، وإني لا أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لم يثب علي، ولا أنبه نائمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف والظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولا يكن لي منكم ناصر ولا معين. أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر مما يريد به الباطل.»
فلما رأينا كلامه لا يفيد القطع ولا يدل على الحزم، قام إليه واحد منا وقال له: إن هذا لا يصلح إلا الغشم، وأنه رأي المستضعفين، فما كان جوابه إلا أن قال: «لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصيته.» فزادنا قوله خوفا منه، فكتبت هذا ليكون أمير المؤمنين على بصيرة، ويعلم أن ابن بشير لا يصلح لهذا الأمر، فأرسل إلينا من يعمل مثل عملك والسلام.
فلما قرأ يزيد الكتاب اضطرب وتشاءم مما ارتكبه بالأمس، وخيل إليه أنه أذنب بقتل سلمى وهي فتاة، وندم على فعله وأراد صرف مجلسه ليخلو ببعض خاصته فقال: على بركة الله، فعلم أرباب المجلس أنه يريد صرفهم، وكانت تلك عادته كلما أراد ذلك، فانصرفوا، ثم بعث على سرجون، وهو رجل رومي ذو دهاء وحكمة كان معاوية يعتمد عليه في شئونه ويستشيره في أموره حتى جعله كاتبه، فلما مات معاوية ظل يزيد على الثقة به، فلما جاءه أطلعه على الكتاب فأطرق هنيهة ثم قال: أرأيت إذا نشر معاوية هل تأخذ برأيه؟
قال: نعم.
فمد سرجون يده إلى جيبه وأخرج كتابا وقال: خد هذا.
فأخذه يزيد وقرأه، فإذا هو عهد لعبيد الله بن زياد يوليه به الكوفة.
فقال يزيد: ما هذا؟
قال: هذا رأي معاوية، إنه مات وقد أمر بهذا الكتاب.
ناپیژندل شوی مخ