ولم تعد سلمى تصبر عن إظهار نفسها، فتحفزت للوقوف، ولم تكد تقف حتى رأت الشيخ ينظر إليها ويتفرس فيها، فلما عرفها ذعر ذعرا شديدا كأنه رأى ماردا من مردة الجن، وصاح قائلا: أأنت هنا يا سلمى؟! وتحول مثل لمح البصر، وعدا عدو الظبي النافر يلتمس الفضاء.
فنادته واستوقفته وهو لا يسمع ولا يصغي، فظلت واقفة حتى توارى عن بصرها، فاستجمعت رشدها ولم تستغرب ذلك النفور من الشيخ لعلمها بأطواره من ذي قبل، ثم مشت نحو الجثث وهي تتفرس فيما بين يديها من أيد مبتورة قد عفرها التراب، وسهام منثورة أغفلها الرماة، واشتمت رائحة الدماء، وقد تعفن بعضها وتصاعدت ريحه، حتى أقبلت على الجثث وكلها بلا رءوس، والجثث برءوسها ترهب قلب الشجاع، فكيف وهي على تلك الحال بين يدي فتاة لم تتعود القتال! ولكن سلمى إنما أقدمت على ذلك وقد غلب عليها اليأس، فتفرست في تلك الجثث، ولكنها عرفت جثة الطفل المقتول لأنها أصغرها جميعا، فهمت به وقبلته، وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وتذكرت مصائبها وما يشغلها من أمر عبد الرحمن وهي لا تعلم مصيره ولا أين هو، على أنها تذكرت قول الناسك ببقائه حيا، ولكنها حملت ذلك منه على رغبته في اطمئنانها لكي تبقى معه، فجعلت تندب حالها وما قاسته من العناء والبلاء حتى استنزفت الدمع.
رأس الحسين
ثم انتبهت وخشيت أن يشعر بها الحراس فطرحت جثة الطفل فوق جثث أهله، وقالت: الوداع أيها الساكنين بلا حراك، الوداع إلى يوم المحشر الرهيب ، وعسى أن ألحق بكم وأنا أحمل خبر الانتقام لكم بإذن الله. وهي إنا ترجو ذلك بما سمعته ساعتئذ من كلام الشيخ الناسك من هذا القبيل.
ثم عادت إلى الخيام حتى دخلت الفسطاط، فرأت زينب في قلق عليها، فاعتذرت بانشغالها بأمر نفسها.
وفي ضحى اليوم التالي عاد عمر بن سعد بجنده إلى الكوفة، وساقوا معهم نساء الحسين وجواريه وبنتيه سكينة وفاطمة وأخته زينب، وابنه عليا المريض، وتنكرت زينب بثياب حقيرة حتى لا يعرفها أحد، وسارت سلمى معها متنكرة أيضا حتى دخلوا الكوفة فرأوا أهلها يطلون من النوافذ والكوى ليشاهدوا بقية بيت الرسول، وسلمى تتفرس في الناس من خلال النقاب لعلها تجد عبد الرحمن أو عامرا بينهم فلم تر أحدا. حتى إذا أقبلوا بهم على قصر الإمارة مشت زينب وسلمى ومعهما بعض الجواري، وجلسن في ناحية من القصر على مقربة من مجلس ابن زياد، وكان ابن زياد جالسا والناس حوله، ورأت سلمى بين يديه رأس الحسين وقد تعفر وتقلصت شفتاه وبانت ثناياه وتلطخ شعر لحيته بالدماء والتراب حتى أصبح الشعر كتلا متجمدة، وابن زياد ينظر إلى الرأس ويبتسم وفي يده قضيب يضرب به ثنايا الحسين، ورأت بجانب ابن زياد شيخا جليل القدر عرفت بعد ذلك أنه زيد بن أرقم صاحب الرسول، فلما رآه الشيخ يضرب بالقضيب ثنايا الحسين قال له: «ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين؛ فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليهما ما لا أحصيه.» قال الشيخ ذلك وانتحب باكيا.
قال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله؟! والله لولا أنك شيخ خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.
فنهض الشيخ من بين يديه وخرج.
ناپیژندل شوی مخ